بو عبدالرحمن
11-05-2006, 12:36 PM
حادثة أحسبها عجيبة بالنسبة لي ، تلقيت منها درسا بليغاً ، فأحببت أن أسوقها إليكم ،
لعل الله يضع لها القبول ، فينتفع بها من يقرأها ..
- -
كان صباحاً غير عادي.. !
كثافة الضباب هائلة إلى درجة أنك لا تستطيع أن ترى سوى على بُعد خطوات ..!
كنتُ قد اعتدتُ أن أوصلَ ابنتي إلى مدرستها ، ثم أعرج لأستدير دورة كاملة في الاتجاه الآخر ،
لأواصل الطريق إلى عملي ، فكان ذلك يستغرق مني وقتاً وجهداً ..
حين تكون السماء صافية ، تتطلع إليها فكأنما تتبسم لك ، في ذلك اليوم لا إشكال يواجهني ،
ولكن اليوم كان يوماً غير عاديٍ ابداً .. !
أما وكثافة الضباب على هذا النحو ، فإن الأمر سيكون في غاية الصعوبة ، ومعنى ذلك بالتأكيد أني سأصل إلى مقر عملي متأخر ، بل ومتأخر جداً ..!
ذلك أني أتهيب قيادة السيارة في مثل هذه الأجواء ، وتكاد سيارتي بين السيارت تزحف زحف السلحفاة !
تسيرُ الهوينا ولا تسرعُ ** كأنها بلقيسُ أو تبّعُ !
ليس من فرط تباهيها وانتفاشة ريشها ، لكن لفرط الحذر والخوف الذي يعتري كل مسمار فيها !!
كما قلت .. كان صباحاً غير عادي ..!
فقد تأخرت ابنتي عن الالتحاق بي إلى السيارة ، وكنت قد سبقتها لأسخن المحرك ،
وأخذت أقلب نظري في هذه الأجواء من حولي ، وفي راسي تثور عشرات الخواطر ،
ولعلي كررت الضغط على بوق السيارة بعصبية عدة مرات ، فلما رأيتها لم تخرج ،
قررت أن أتركها هذا الصباح ...!!! ومضيت لا ألوي على شيء ..
.. جرت العادة أنه إذا حدث _ ونادرا ما يحدث _ حين أترك أحدا كان عليه أن يلحق بي ،
فإني أمضي وفي نفسي حزن وانقباض على خطأ ما فعلت ، ولكني ابرر لنفسي أن هذا بمثابة العقوبة !
حتى لا يتكرر منه مثل هذا الأمر ..!
لكني هذه المرة لم أجد في نفسي ذلك الألم أو التوبيخ أو الانقباض حين قررت أن أدع ابنتي
..ربما بسبب انشغال عقلي وقلبي ولبي كله بهذه الأجواء التي تحيط بي من كل جانب ..!
ومضيت في طريقي رأسا إلى عملي ،
ومعنى ذلك أني لن أضطر إلى ذلك الالتفاف الطويل الذي أقدم عليه كلما أوصلت ابنتي ..
واستعنت بالله وخواطري لم تتوقف حول هذا الطريق الذي سأسلكه وسط هذه الغابة الكثيفة من الضباب ..
لا سيما والطريق الذي ساسير عليه لا تنقطع عنه الشاحنات !! وهذه مصيبة أخرى !
فإذا كان الضباب نفسه يعيقني عن السير ، فإن وجود هذه الشاحنات يسبب لي رعبا آخر !
لاسيما حين أسير في محاذاتها وسط أجواء خانقة كهذه ..!
ومضيت في هدوء وببطء شديد ، وإشارات السيارة كلها تعمل ، وماسح الزجاج لا يتوقف ،
ولساني كذلك لا يهدأ بالذكر والدعاء ، وخفقات قلبي تسبيح وتهليل وضراعة !!
سرت شوطاً طويلا بصعوبة ، لو أن رجلا كان يجري على قدميه بمحاذاتي لسبقني !!
وكان عليّ أن أستدير استدارة كاملة حتى أصل إلى الطريق الرئيسي وهو مكمن الرعب،
حيث يتواجد فيه الموت في صورة شاحنات تتسابق !!
وفجأة ألهمني الله سبحانه فكرة كدت أطير فرحا بها ، كانت على يميني منطقة شعبية حديثة ، ممتدة بطول الطريق الذي أسير فيه هذه الساعة ،
وكان خلف هذه المنطقة طريق مسلوك غير أنه غير أنه غير مطروق ،
والذين يرتادونه ندرة نادرة ، ربما لأنه جديد ، وربما لأنه يضطرك أن تقطع مفازة منقطعة عن العمران بعيدا عن الطرق الرئيسية ..
المهم فرحت بالفكرة لأن هذا الطريق سيختصر لي المسافة من جهة ،
وسيبعدني عن السير في طريق الشاحنات ،
وكنت قد سلكت هذا الطريق بعينه مرتين أو ثلاث على فترات متباعدة ..
ولكن الجو اليوم غير الجو في تلك المرات التي سلكته فيها ، ففي المرات السابقة كان الجو صحوا ،
فكنت أنطلق بسرعة كبيرة وعيني على امتداد الطريق الخالي من السيارات ،
ومن ثم لم أكن أحمل هم ملاحظة شعاب الطريق وتفريعاته ..! وهنا كمنت مشكلة اليوم !!
فقد مضيت في نفس الطريق ، ولكن بصعوبة شديدة بسبب هذا الضباب الكثيف ،
ومن ثم فقد انحرفت ، وسرت أتخبط كما تتخبط سفينة تائهة في عرض البحر ، تتلاعب بها الأمواج في كل اتجاه !!
لقد شعرت أني اسير في طريق خاطئ ! ولذا توقفت مرات على جانب الطريق لعلي أرى معال
م استدل بها على صحة سيري ، لكن كثافة الضباب حالت دوني رؤية أي شيء على الإطلاق ..
فأعود وأواصل السير في حذر وببطء ، ثم أتوقف من جديد ، وأتلفت كالمجنون !!
وتماديت في السير الخاطئ ، ووجدتني أنعطف مرة أخرى ذات اليمين ، ومع هذا سرت شوطاً فيه ، لقد تيقنت الآن أني تهت عن أول الطريق..!!
وتأكد لي هذا حين استعدت ذاكرتي كيف سلكت هذا الطريق في المرات السابقة ،
حيث لا أتذكر إلا أنني سرت بشكل مستقيم تماما ولم أعرج على منعطفات الطريق البتة ..!!
وأخذت أسبح الله بصوت مرتفع ، حيث أنني أردت أن أختصر الطريق ،
فإذا بي تائه أتخبط محتار أتمنى لو أني لم أعرج إلى هذا الطريق الصحراوي الذي لم أعد أعرف كيف سأخرج منه !
عشرات الأسئلة .. عشرات الخواطر تغلي في عقلي وقلبي ، ولساني لا يزال يدور بالتسبيح !!
ولاحت على بعد أنوار سيارة تضاء وتطفأ ، وفرحت بها كأنما عثرت على كنز ، في وسط صحراء مترامية ،
ولما قربت منها رأيت رجلاً يقف إلى جانبها وهي متوقفة على كتف الطريق ،
فلما رآني أخذ يلوح بكلتا يديه بقوة ، كأنما خشي أن لا أراه ، أو تخوف أن لا أقف له ،
قلت في نفسي : لعله تائه مثلي وأحب أن يستهديني الطريق ، وتبسمت !
فلما حاذيته ، أنزلت زجاج السيارة فإذا هو يقول :
السلام عليكم .. أخي سيارتي توقفت علي ، لو سمحت أريد شحن البطارية ..!
قلت : أبشر .. إن شاء الله خيرا ..!!
وقربت مقدمة سيارتي من مقدمة سيارته ، ثم ترجلت لأخرج التوصيلات ،
وأثناء حركتي في العمل سألت الرجل : أين نحن بالضبط !؟
فضحك وقال : والله يا الحبيب لا أدري ، أنا تائه مثلك ، ومنقطع هاهنا منذ نصف ساعة تقريباً !
فمعالم المنطقة كما ترى لا يتضح منها شيء بسبب هذا الضباب الكثيف ..
وعدت أسأله ويدي لا تزال تعمل : وأين وجهتك ؟
فذكر نفس المنطقة التي أتيت أنا منها ،فابتسمت وقلت له : ابشر ! جاءك الفرج إذن ..!
فإني جئت من نفس المنطقة ..
ثم شرعت أشرح له طريقة سيره للوصول إليها .. وتهلل وجهه بشكل غير عادي ..
ودار لسانه بالشكر لله رب العالمين ..
لقد كان كل ما يأمله أن يجد من يعينه على تشغيل سيارته فحسب ..
وها هو يجد من يدله للخروج من هذه المحنة كلها ..!!َ
بعد محاولتين أو ثلاث دار محرك السيارة ، فرفع يديه إلى السماء وقال :
جزاك الله خيرا.. أتى الله بك لتنقذنا ..!!!!
لفت انتباهي قوله لتنقذنا ، وبلا شعور وجدتني أتطلع إلى قلب السيارة لأرى فيها امرأة
تقبع في سكون ، وتترقب ما سيكون من أمر هذا الموقف الذي هي فيه ..!
ولأن الطريق مزدوج استدار الرجل بسيارته ليمضي في نفس الاتجاه الذي جئت أنا منه ،
وما أن تحرك حتى قررت فجأة أن ألحق به !!
ذلك لأن عودتي إلى تلك المنطقة ، ومنها إلى الطريق الرئيسي _ الذي فررت منه ابتداءً ! _
هو الأسلم للخروج من هذه المحنة ، وإلا فلو أني مضيت في طريقي الذي أنا فيه
فلا أدري إلى أين سأنتهي ، ولا متى سأصل إلى مقر عملي ..!!
وهكذا سرت خلف الرجل ، غير أني هذه المرة اضطررت أن أرفع مؤشر السرعة حتى أبقى
قريبا منه وهو يتقدمني ، أسير بسرعته بعيدا منه إلى حد ما ،
لا يغيب عني إشارات سيارته الضوئية التي لا تتوقف ..!
ووصلنا معا إلى تلك المنطقة ، وهناك افترقنا وأخرج الرجل يده من النافذة يلوح لي بها شاكراً ومودعاً .. !!
وواصلت سيري بدوري ، ووجدتني أعود إلى نقطة البداية التي كنت فيها !!
ومعنى ذلك أنه يلزمني أن أمضي في طريق الشاحنات حيث يمشي الموت على عجلات !!
ومع هذا كنت اشعر بانشراح عجيب وغريب ..!
وأخذت أفكر فيما جرى هذا النهار ..!!
وكيف تركت ابنتي دون أن تهتز في طرفة رمش !
وكيف قررت فجأة أن اسلك هذا الطريق الفرعي الصحراوي !
ثم كيف تهت فيه لأصل إلى هذه العائلة في ذلك المكان المنقطع لأعمل على تشغيل سيارته ،
ثم دلالته على الوصول إلى حيث يريد !
وشعرت وكأني كنت مسوقا لإنقاذ تلك العائلة ليس إلا ..!
بل لقد كانت هناك مفاجأة أخرى أعجب ، ذلك أنني بمجرد أن دخلت طريق الشاحنات ،
كان الضباب يرتفع شيئا فشيئا ، وما هو إلا مسافة قصيرة ، حتى انكشفت المعالم وبان النهار!!
ودار لساني بالدعاء والحمد والثناء على الله سبحانه ، وترقرقت عيناي بدموع الشكر لله ..
وأزاح الله عني هم عتاب مدير عملي حين أصل متأخراً ، ولم اشغل فكري في ذلك ،
والعجب أني حين وصلت كان المدير في تلك اللحظة نفسها يصل هو الآخر متأخرا ،
ومن ثم حين ترجل من سيارته وترجلت من سيارتي بادر كل منا يسلم على الآخر
وإذا هو يقول :
أكيد أنت أيضا تأخرت بسبب هذا الضباب الغير عادي هذا اليوم .. أعانك الله ..!
**
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..
لعل الله يضع لها القبول ، فينتفع بها من يقرأها ..
- -
كان صباحاً غير عادي.. !
كثافة الضباب هائلة إلى درجة أنك لا تستطيع أن ترى سوى على بُعد خطوات ..!
كنتُ قد اعتدتُ أن أوصلَ ابنتي إلى مدرستها ، ثم أعرج لأستدير دورة كاملة في الاتجاه الآخر ،
لأواصل الطريق إلى عملي ، فكان ذلك يستغرق مني وقتاً وجهداً ..
حين تكون السماء صافية ، تتطلع إليها فكأنما تتبسم لك ، في ذلك اليوم لا إشكال يواجهني ،
ولكن اليوم كان يوماً غير عاديٍ ابداً .. !
أما وكثافة الضباب على هذا النحو ، فإن الأمر سيكون في غاية الصعوبة ، ومعنى ذلك بالتأكيد أني سأصل إلى مقر عملي متأخر ، بل ومتأخر جداً ..!
ذلك أني أتهيب قيادة السيارة في مثل هذه الأجواء ، وتكاد سيارتي بين السيارت تزحف زحف السلحفاة !
تسيرُ الهوينا ولا تسرعُ ** كأنها بلقيسُ أو تبّعُ !
ليس من فرط تباهيها وانتفاشة ريشها ، لكن لفرط الحذر والخوف الذي يعتري كل مسمار فيها !!
كما قلت .. كان صباحاً غير عادي ..!
فقد تأخرت ابنتي عن الالتحاق بي إلى السيارة ، وكنت قد سبقتها لأسخن المحرك ،
وأخذت أقلب نظري في هذه الأجواء من حولي ، وفي راسي تثور عشرات الخواطر ،
ولعلي كررت الضغط على بوق السيارة بعصبية عدة مرات ، فلما رأيتها لم تخرج ،
قررت أن أتركها هذا الصباح ...!!! ومضيت لا ألوي على شيء ..
.. جرت العادة أنه إذا حدث _ ونادرا ما يحدث _ حين أترك أحدا كان عليه أن يلحق بي ،
فإني أمضي وفي نفسي حزن وانقباض على خطأ ما فعلت ، ولكني ابرر لنفسي أن هذا بمثابة العقوبة !
حتى لا يتكرر منه مثل هذا الأمر ..!
لكني هذه المرة لم أجد في نفسي ذلك الألم أو التوبيخ أو الانقباض حين قررت أن أدع ابنتي
..ربما بسبب انشغال عقلي وقلبي ولبي كله بهذه الأجواء التي تحيط بي من كل جانب ..!
ومضيت في طريقي رأسا إلى عملي ،
ومعنى ذلك أني لن أضطر إلى ذلك الالتفاف الطويل الذي أقدم عليه كلما أوصلت ابنتي ..
واستعنت بالله وخواطري لم تتوقف حول هذا الطريق الذي سأسلكه وسط هذه الغابة الكثيفة من الضباب ..
لا سيما والطريق الذي ساسير عليه لا تنقطع عنه الشاحنات !! وهذه مصيبة أخرى !
فإذا كان الضباب نفسه يعيقني عن السير ، فإن وجود هذه الشاحنات يسبب لي رعبا آخر !
لاسيما حين أسير في محاذاتها وسط أجواء خانقة كهذه ..!
ومضيت في هدوء وببطء شديد ، وإشارات السيارة كلها تعمل ، وماسح الزجاج لا يتوقف ،
ولساني كذلك لا يهدأ بالذكر والدعاء ، وخفقات قلبي تسبيح وتهليل وضراعة !!
سرت شوطاً طويلا بصعوبة ، لو أن رجلا كان يجري على قدميه بمحاذاتي لسبقني !!
وكان عليّ أن أستدير استدارة كاملة حتى أصل إلى الطريق الرئيسي وهو مكمن الرعب،
حيث يتواجد فيه الموت في صورة شاحنات تتسابق !!
وفجأة ألهمني الله سبحانه فكرة كدت أطير فرحا بها ، كانت على يميني منطقة شعبية حديثة ، ممتدة بطول الطريق الذي أسير فيه هذه الساعة ،
وكان خلف هذه المنطقة طريق مسلوك غير أنه غير أنه غير مطروق ،
والذين يرتادونه ندرة نادرة ، ربما لأنه جديد ، وربما لأنه يضطرك أن تقطع مفازة منقطعة عن العمران بعيدا عن الطرق الرئيسية ..
المهم فرحت بالفكرة لأن هذا الطريق سيختصر لي المسافة من جهة ،
وسيبعدني عن السير في طريق الشاحنات ،
وكنت قد سلكت هذا الطريق بعينه مرتين أو ثلاث على فترات متباعدة ..
ولكن الجو اليوم غير الجو في تلك المرات التي سلكته فيها ، ففي المرات السابقة كان الجو صحوا ،
فكنت أنطلق بسرعة كبيرة وعيني على امتداد الطريق الخالي من السيارات ،
ومن ثم لم أكن أحمل هم ملاحظة شعاب الطريق وتفريعاته ..! وهنا كمنت مشكلة اليوم !!
فقد مضيت في نفس الطريق ، ولكن بصعوبة شديدة بسبب هذا الضباب الكثيف ،
ومن ثم فقد انحرفت ، وسرت أتخبط كما تتخبط سفينة تائهة في عرض البحر ، تتلاعب بها الأمواج في كل اتجاه !!
لقد شعرت أني اسير في طريق خاطئ ! ولذا توقفت مرات على جانب الطريق لعلي أرى معال
م استدل بها على صحة سيري ، لكن كثافة الضباب حالت دوني رؤية أي شيء على الإطلاق ..
فأعود وأواصل السير في حذر وببطء ، ثم أتوقف من جديد ، وأتلفت كالمجنون !!
وتماديت في السير الخاطئ ، ووجدتني أنعطف مرة أخرى ذات اليمين ، ومع هذا سرت شوطاً فيه ، لقد تيقنت الآن أني تهت عن أول الطريق..!!
وتأكد لي هذا حين استعدت ذاكرتي كيف سلكت هذا الطريق في المرات السابقة ،
حيث لا أتذكر إلا أنني سرت بشكل مستقيم تماما ولم أعرج على منعطفات الطريق البتة ..!!
وأخذت أسبح الله بصوت مرتفع ، حيث أنني أردت أن أختصر الطريق ،
فإذا بي تائه أتخبط محتار أتمنى لو أني لم أعرج إلى هذا الطريق الصحراوي الذي لم أعد أعرف كيف سأخرج منه !
عشرات الأسئلة .. عشرات الخواطر تغلي في عقلي وقلبي ، ولساني لا يزال يدور بالتسبيح !!
ولاحت على بعد أنوار سيارة تضاء وتطفأ ، وفرحت بها كأنما عثرت على كنز ، في وسط صحراء مترامية ،
ولما قربت منها رأيت رجلاً يقف إلى جانبها وهي متوقفة على كتف الطريق ،
فلما رآني أخذ يلوح بكلتا يديه بقوة ، كأنما خشي أن لا أراه ، أو تخوف أن لا أقف له ،
قلت في نفسي : لعله تائه مثلي وأحب أن يستهديني الطريق ، وتبسمت !
فلما حاذيته ، أنزلت زجاج السيارة فإذا هو يقول :
السلام عليكم .. أخي سيارتي توقفت علي ، لو سمحت أريد شحن البطارية ..!
قلت : أبشر .. إن شاء الله خيرا ..!!
وقربت مقدمة سيارتي من مقدمة سيارته ، ثم ترجلت لأخرج التوصيلات ،
وأثناء حركتي في العمل سألت الرجل : أين نحن بالضبط !؟
فضحك وقال : والله يا الحبيب لا أدري ، أنا تائه مثلك ، ومنقطع هاهنا منذ نصف ساعة تقريباً !
فمعالم المنطقة كما ترى لا يتضح منها شيء بسبب هذا الضباب الكثيف ..
وعدت أسأله ويدي لا تزال تعمل : وأين وجهتك ؟
فذكر نفس المنطقة التي أتيت أنا منها ،فابتسمت وقلت له : ابشر ! جاءك الفرج إذن ..!
فإني جئت من نفس المنطقة ..
ثم شرعت أشرح له طريقة سيره للوصول إليها .. وتهلل وجهه بشكل غير عادي ..
ودار لسانه بالشكر لله رب العالمين ..
لقد كان كل ما يأمله أن يجد من يعينه على تشغيل سيارته فحسب ..
وها هو يجد من يدله للخروج من هذه المحنة كلها ..!!َ
بعد محاولتين أو ثلاث دار محرك السيارة ، فرفع يديه إلى السماء وقال :
جزاك الله خيرا.. أتى الله بك لتنقذنا ..!!!!
لفت انتباهي قوله لتنقذنا ، وبلا شعور وجدتني أتطلع إلى قلب السيارة لأرى فيها امرأة
تقبع في سكون ، وتترقب ما سيكون من أمر هذا الموقف الذي هي فيه ..!
ولأن الطريق مزدوج استدار الرجل بسيارته ليمضي في نفس الاتجاه الذي جئت أنا منه ،
وما أن تحرك حتى قررت فجأة أن ألحق به !!
ذلك لأن عودتي إلى تلك المنطقة ، ومنها إلى الطريق الرئيسي _ الذي فررت منه ابتداءً ! _
هو الأسلم للخروج من هذه المحنة ، وإلا فلو أني مضيت في طريقي الذي أنا فيه
فلا أدري إلى أين سأنتهي ، ولا متى سأصل إلى مقر عملي ..!!
وهكذا سرت خلف الرجل ، غير أني هذه المرة اضطررت أن أرفع مؤشر السرعة حتى أبقى
قريبا منه وهو يتقدمني ، أسير بسرعته بعيدا منه إلى حد ما ،
لا يغيب عني إشارات سيارته الضوئية التي لا تتوقف ..!
ووصلنا معا إلى تلك المنطقة ، وهناك افترقنا وأخرج الرجل يده من النافذة يلوح لي بها شاكراً ومودعاً .. !!
وواصلت سيري بدوري ، ووجدتني أعود إلى نقطة البداية التي كنت فيها !!
ومعنى ذلك أنه يلزمني أن أمضي في طريق الشاحنات حيث يمشي الموت على عجلات !!
ومع هذا كنت اشعر بانشراح عجيب وغريب ..!
وأخذت أفكر فيما جرى هذا النهار ..!!
وكيف تركت ابنتي دون أن تهتز في طرفة رمش !
وكيف قررت فجأة أن اسلك هذا الطريق الفرعي الصحراوي !
ثم كيف تهت فيه لأصل إلى هذه العائلة في ذلك المكان المنقطع لأعمل على تشغيل سيارته ،
ثم دلالته على الوصول إلى حيث يريد !
وشعرت وكأني كنت مسوقا لإنقاذ تلك العائلة ليس إلا ..!
بل لقد كانت هناك مفاجأة أخرى أعجب ، ذلك أنني بمجرد أن دخلت طريق الشاحنات ،
كان الضباب يرتفع شيئا فشيئا ، وما هو إلا مسافة قصيرة ، حتى انكشفت المعالم وبان النهار!!
ودار لساني بالدعاء والحمد والثناء على الله سبحانه ، وترقرقت عيناي بدموع الشكر لله ..
وأزاح الله عني هم عتاب مدير عملي حين أصل متأخراً ، ولم اشغل فكري في ذلك ،
والعجب أني حين وصلت كان المدير في تلك اللحظة نفسها يصل هو الآخر متأخرا ،
ومن ثم حين ترجل من سيارته وترجلت من سيارتي بادر كل منا يسلم على الآخر
وإذا هو يقول :
أكيد أنت أيضا تأخرت بسبب هذا الضباب الغير عادي هذا اليوم .. أعانك الله ..!
**
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..