PDA

View Full Version : من لهذا الأمر العظيم ؟


ماض على الطريق
15-08-2006, 02:24 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمده تعالى ، ونستعين به ونستغفره ، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
ـ أما بعد ـ
إخوتاه ..
تجري دموع العين وفي الحشا زفرات حزن تلتطم ، ويكتم المرء وجدا في جوانحه وكيف يُكتم ما ليس ينكتم ، فهل للواجد المكروب من زفراته سكون عزاء أو تأوه ألم ؟ .
فلعمر الله إنَّما نحن في رزء عظيم ، وخطب أمره جلل جسيم ، رزئنا في جبال كانوا على الأرض النجوم في ليل بهيم ، مات ابن باز والألباني وابن عثيمين ، عليهم رحمات ربنا الرحيم ، وتقلب بصرك فلا تجد من يُدعى لخَطب أو يقال : عالمٌ كريم !! فمن ساعتها فتكت بأنفسنا الهموم ، فما في هذه الدنيا مكان يُسَرُّ بأهله الجارُ المقيم ، وسرطان الجهل في الأمة يسري فما تدري أعرضٌ حادث أم داء قديم ، فلك الله يا أمة محمد عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم .
فمن لنا غيرك يا ربنا ، لا ملجأ منك إلا إليك فارحمنا .
كانوا بحور العلم فيا لحيرة العطشان في وقت الهجير !!
كانوا على ثغور فيا لذلة المظلوم وهو معدوم النصير !!
كانوا منارات فيا لحيرة الشيخ الأصم وحسرة الحدث الضرير !!
كانوا مزن الرحمة فيا لفجأة المكروه في اليوم العبوس القمطرير !!
اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا و قلة حيلتنا و هواننا على النَّاس يا أرحم الراحمين !!
إلى من تكلنا ؟! إلى عدو يتجهمنا أم إلى قريب ملكته أمرنا ؟! إن لم يكن بك سخطٌ علينا فلا نبالي ، غير أن عافيتك أوسع لنا ، نعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض ، وأشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علينا غضبك ، أو ينزل علينا سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، و لا حول ولا قوة إلا بك .
إخوتاه ..
قال الله تعالى : " إنَّما يخشى الله من عباده العلماء " [ فاطر/28]
وقال تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " [ المجادلة /11 ]
قال الله تعالى : " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " [الزمر/9]
فالعلماء هم أكثر الناس خشية لله تعالى ، فالعلم عبادة القلب إذا ابتغي به وجه الله تعالى ، فتعلمه لله قربة ، ومدراسته ذكر ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه صدقة ؛ لأنَّه معالم الحلال والحرام ، وبيان سبيل الجنة ، والمؤنس في الوحشة ، والمحدث في الخلوة ، والجليس في الوحدة ، والصاحب في الغربة ، والدليل على السراء ، والمعين على الضراء ، والزين عند الإخلاء ، والسلاح على الأعداء .
وبالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى ، ومجالسة الأصفياء في الدنيا ، ومرافقة الأبرار في الآخرة .
وبالعلم توصل الأرحام ، وتفصل الأحكام ، وبه يعرف الحلال والحرام .
وبالعلم يعرف الله ويوحد ، وبالعلم يطاع الله ويعبد .
فخير الدنيا والآخرة مع العلم ، وشر الدنيا والآخرة مع الجهل .
إخوتاه ..
وإذا كان هذا شأن العلم ، فإنَّ القلب ليتفطر كمدًا ويقطر حسرة على عمر الدعوة الذي لم يثمر إلا أعدادًا ضئيلة تنحصر على أصابع اليدين من طلبة العلم المجتهدين ، وليس ثمَّ زمان أحرى من هذا الزمان لنعيد فتح " قضية التعلم " التي باتت من أكثر المزالق التي تزل فيها الأقدام ، فقد غابت " المنهجية " و" كثرت الدعاوى " و" انتشرت الآراء الباطلة " وتلك علامة الساعة ؛ فشرطها أنْ يزداد الجهل ، ويقل العلم .
ومما زاد الطين بلة أن كثيرا من حملة العلم إلا من رحم الله لم يصونوا العلم وندر العمل به ففقدوا سيما أهل العلم والصلاح وفقدت الأمة الرجل القدوة ، الذي يقود الأمة بعلمه وعمله ، بهديه وسمته وسلوكه ، وأقواله وأفعاله . قال الفضيل : لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم ، وأعزوا هذا العلم وصانوه ، وأنزلوه حيث أنزله الله إذًا لخضعت لهم رقاب الجبابرة ، وانقاد لهم الناس ، وكانوا لهم تبعًا ، ولكنهم أذلوا أنفسهم ، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ، فهانوا وذلوا ، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون فأعظم بها من مصيبة !!
عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنا "
ولقد كثر سواد علماء السوء ، ووسد الأمر إلى غير أهله ، فهان العلم ، وازدادت الفتن ، وتوالت المحن . قال صلى الله عليه وسلم : " سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيْؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيَخُونُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ .
قِيلَ: وَمَا الرَّوَيْبِضَةُ ؟!! قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتكلَّم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ .
قال الثوري : كان يقال العالم الفاجر فتنة لكل مفتون .
إخوتاه ..
وليت البلاء وقف عند حد علماء السوء إذاً لقلنا : لهم الجهابذة يذبون عن شرع الله تعالى ، ولكنَّ البلية بليتان ، فقد عاد أهل الصلاح والإيمان ، من الندرة بمكان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " ‌
وفي خلال السنتين الماضيتين فقدت الأمة من خيرة علمائها ما لم تفقده طوال عقود ماضية ، ولم تعدْ تبصر من الأكابر إلا النادر القليل ، وعاد الأمر برمته بأيدي الأصاغر ، وتلك من علامات الساعة .
عن أبي أمية الجمحي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر "
مات الأكابر : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ وفضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، ناهيك عن فحول أعلام كفضيلة الشيخ عطية سالم ، وفضيلة الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر ، وفضيلة الشيخ سيد سابق ، وفضيلة الشيخ ابن غضون ، وفضيلة الشيخ منَّاع القطان ، وفضيلة الشيخ مصطفى الزرقا ، وفضيلة الشيخ حماد الأنصاري ، وفضيلة الشيخ محمد أمان الجامي ، وفضيلة الشيخ عمر فلاتة ، وفضيلة الشيخ على الطنطاوي وغيرهم ،
ولم نلبث كثيرًا حتى رزئت الأمة في العَلم الهمام فضيلة الشيخ ابن عثيمين عليه رحمات الرحمن ، فاليوم تقلب بصرك فلا تجد من يقوم على ثغرات كان يسدها هؤلاء الرجال الجبال ، فموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .
قال أيوب : إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأنِّي أفقد بعض أعضائي. فاللهم إليك المشتكي .
تعلَّم ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزيـة فقد حر يموت بفقده بشر كثـير
إخوتاه ..
يوم مات الشيخ الألباني قلت : إنَّ القلق على مستقبل الأمة أعظم من حزننا على موت علمائنا ، فالمصاب الجلل أن تلتفت فلا تجد من يسد الثغرة التي كان عليها هؤلاء الفحول ، وأنْ يصير جل عملنا النواح ونترك العمل الإيجابي الجاد .
ولذلك طرحت يومها " ورقة عمل " من ست نقاط :
أولا : وجود منهج سلفي فعلي متكامل لطلبة العلم ، منهج واقعي ذي مراحل وفق طريقة سلفنا الصالح ، منهج محدد واضح يعرفه كل أحد ، ويتقيد به .
ثانيًا : أن يعكف فريق من الدعاة وطلبة العلم المجتهدين على شرح هذا المنهج على أشرطة وأسطوانات وكتب ، وتباع بسعر التكلفة ، وتتولى رعاية ذلك الجمعيات الرسمية ؛ لبث وتدريس هذا المنهج .
ثالثًا : تجييش الأمة بكل فئاتها وطبقاتها لطلب العلم .
رابعًا : تجريد الإخلاص في طلب العلم .
خامسًا : الشمولية قبل التخصص ؛ كي لا تفرز الأمة أنصاف متعلمين ، ليس لهم من العلم إلا شذرًا من هنا وهناك ، أو متخصصًا لا يدري شيئًا عمَّا لم يتخصص فيه .
سادسًا : عدم التعصب للآراء والمذاهب والمشايخ .
وإذا كان ذلك على وجه الإجمال ، فلعلي في هذه الرسالة ـ أسأل الله أن يكتب الله لها القبول ـ أعيد ما أجملت ثمَّ بمزيد بيان ، والله المستعان .
إخوتاه ..
إنني أحاول من خلال هذه الرسالة أنْ أنبهكم لخطورة " قضية التعلم " فقد بات نوع من الفصام العجيب بين العلم والعمل ، ولم تعدْ تألف وجود العالم العامل ، كما كان الأمر من قبل ، فقد غيبت المفاهيم ، وانطلقت شعارات كـ " العلم للعلم " و" العلم المدني والعلم الشرعي " ونحو ذلك مما يدندن به أعداء هذه الأمة لسلب هويتها ، بمسخ أصولها وقواعدها الركينة ، فالعلم والعمل عندنا وجهان لعملة واحدة ، لا فصام بينهما البتة ، فالعلم عندنا ليس ترفًا معرفيًا ، ولا تطلعًا فلسفيًا ، ولا ينفصل عن عقيدة التوحيد قيد أنملة ، بل العلم وسيلة للقرب من الله تعالى وتحقيق خشيته في القلوب ، ولا علم دون عمل يثمره ، ولا عمل دون علم يبصره.
قال الحسن : رأيت أقواما من أصحاب رسول الله يقولون : " من عمل بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه ، والعامل بغير علم كالسائر على غير طريق ، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم .
وكان الرجل يطلب العلم فيهم حتى لا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره
وقال الخطيب البغدادي : لا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشا من العلم ، ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصرا في العمل ، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما.

هذه مقدمة كتاب منطلقات طالب العلم لمحمد حسين يعقوب (http://saaid.net/Warathah/eakob/1.zip) كتاب رائع ،، لأصحاب الهمم العالية