Miss Internet
22-08-2000, 08:25 PM
لم يسعني وأنا ابتاع جريدة الصباح من بائع الصحف المجاور لمنزلي , إلا أن القي نظرة طويلة على الأستاذ (علوي) أستاذ اللغة العربية السـابق , وجاري القديم في مسكني , وهو يحمل كمية هائلة من الصحف كعادته منذ أسبوعين كاملين , ثم يتخذ مجلسه في ذلك المقهى المواجه للمنزل , ويقلب صفحات الصحف في اهتمام يملك عليه كل حواسه , وهو يبحث فيها عن اسم ابنه الوحيد ..
أو عن اسمه هو في الواقع ..
وفي كل مرة أرى ذلك المشهد , كنت أعود بذاكرتي مرغما إلى تاريخ الأستاذ (علوي) القديم ..
لقد تزوج الأستاذ (علوي) – كعادة الريفيين – وهو في الثامنة عشرة من عمره , وأنجب من زوجته ثلاث بنات , قبل أن يتخرج من كلية المعلمين , ويصبح معلما للغة العربية ..
ولكنه لم يكن يشعر بالسعادة ..
كان يتشوق دوما إلى إنجاب ولد يحمل اسمه , على الرغم من أنه لم يكن ثريا , ولم تكن عائلته ذات ماض عريق , يحتم ضرورة وجود من ينقل اسمها إلى الأجيال القادمة ..
ومن أجل هذه الرغبة ترك الأستاذ (علوي) زوجته الريفية تواصل إنجاب البنات في قريتهما , ونزح هو إلى (القاهرة) ليعمل في مدرسة قريبة من منزلنا , ويتزوج قاهرية شابة , تصغره بعشرة أعوام ..
وبدا الأستاذ (علوي) شديد الحنق . عندما أنجبت له هذه القاهرية ابنة جميلة , مما جعلني أسأله يومها :
- ألا تحب إنجاب البنات يا أستاذ (علوي) ؟
أجابني في حنق : أريد ولدا يحمل اسمي .
- البنت ستحمل اسمك أيضا .
لوح بكفه قائلا :
- البنت لزوجها .. أما أبناء الابن ,أحفاده , فكلهم سيحملون اسمي أنا .
كنت أضحك لحديثة هذا وأتعجب له , فما زلت حتى اليوم أدهش لهذه النرجسية , التي تدفع الرجال إلى التلهف على إنجاب من يحملون أسماءهم , على الرغم من أن هذا لن ينفعهم أو يضيرهم بعد موتهم , ورحيلهم عن دنيانا ..
ولكن الأستاذ (علوي) كان يتلهف لإنجاب ولد يحمل اسمه ..
ولقد حصل على مبتغاه ..
في المرة الثانية , أنجبت له زوجته ابنا , جعله يطير فرحا , ويدعو رواد المقهى كلهم لتناول المشروبات على نفقته ..
وبدا وكأن ذلك الابن قد أنساه الدنيا كلها , فلم يعد يزور زوجته الريفية في في قريتها , ولم يعد يهتم حتى بزوجته القاهرية ..
أصبح ابنه (أشرف) هو حياته كلها ..
وكان يفخر دوما بأن (أشرف) يحمل اسمه , حتى أنه لم يكن يقدمه إلى أي مخلوق , إلا باسمه الكامل .. (أشرف علوي) ..
وكبر (أشرف) ..
وكبرت معه فرحة الأستاذ (علوي) ..
واقتنص (أشرف) كل الخير من أخوته ..
كل الثياب الجديدة له ..
كل اللعب ..
كل النقود ..
ونشأ (أشرف) مدللا , فلم يتجاوز سنواته الدراسية إلا في صعوبة بالغة , حتى استقر به المقام في الثانوية العامة , فلم يفارقها أبدا ..
ولم يهتم الأستاذ (أشرف) بهذا كثيرا ..
كان يكفيه أن (أشرف) يحمل اسمه ..
وأنه سينقله إلى الأجيال القادمة ..
وفجأة ظهرت على (أشرف) علامات الثراء , سرت شائعة بأنه يعمل في تجارة العملة أو التهريب ..
ولكن الأستاذ (أشرف) لم يهتم أيضا ..
الاسم وحده كان يعنيه ..
وكان يفخر بابنه وثراء ابنه في كل المجالس ..
وفجأة طالعتنا صحف الصباح بخبر رهيب ..
لقد ألقي القبض على (أشرف) بتهمة التجسس لحساب دولة معادية ..
أشرف جـاســـوس !!
مفاجأة مذهلة للجميع ..
وبالذات للأستاذ (علوي) ..
لقد بدا في ذلك الصباح شاحبا ممتقعا , ذاهلا . وجلس على مقعده المعتاد في المقهى صامتا , واجما ..
ثم اندفع نحو بائع الصحف , وابتاع منه كل صحفه ..
وعاد إلى المقهى ..
وفي حزم أخرج من جيبه ممحاة , وراح يمسح اسم (أشـرف) من كل الصحف ..
كان يشعر بعار لا مثيل له , لأن الشاب الذي خان وطنه يحمل اسمه هو ..
ومنذ ذلك الحين , راح الأستاذ (علوي) يبتاع الصحف يوميا , بقدر ما تسمح به ميزانيته , ويجلس على المقهى بتصفحها كلمة كلمة , ويمحو بممحاته أي اسم يشبه اسمه .. مجرد شبه ..
وفقد الرجل عقله ..
فقده بسبب ولد ..
ولد يحمل اسمه ..
من كتاب ( التماس وقصص أخرى )
للمؤلف د . نبـيـل فــاروق
:)
أو عن اسمه هو في الواقع ..
وفي كل مرة أرى ذلك المشهد , كنت أعود بذاكرتي مرغما إلى تاريخ الأستاذ (علوي) القديم ..
لقد تزوج الأستاذ (علوي) – كعادة الريفيين – وهو في الثامنة عشرة من عمره , وأنجب من زوجته ثلاث بنات , قبل أن يتخرج من كلية المعلمين , ويصبح معلما للغة العربية ..
ولكنه لم يكن يشعر بالسعادة ..
كان يتشوق دوما إلى إنجاب ولد يحمل اسمه , على الرغم من أنه لم يكن ثريا , ولم تكن عائلته ذات ماض عريق , يحتم ضرورة وجود من ينقل اسمها إلى الأجيال القادمة ..
ومن أجل هذه الرغبة ترك الأستاذ (علوي) زوجته الريفية تواصل إنجاب البنات في قريتهما , ونزح هو إلى (القاهرة) ليعمل في مدرسة قريبة من منزلنا , ويتزوج قاهرية شابة , تصغره بعشرة أعوام ..
وبدا الأستاذ (علوي) شديد الحنق . عندما أنجبت له هذه القاهرية ابنة جميلة , مما جعلني أسأله يومها :
- ألا تحب إنجاب البنات يا أستاذ (علوي) ؟
أجابني في حنق : أريد ولدا يحمل اسمي .
- البنت ستحمل اسمك أيضا .
لوح بكفه قائلا :
- البنت لزوجها .. أما أبناء الابن ,أحفاده , فكلهم سيحملون اسمي أنا .
كنت أضحك لحديثة هذا وأتعجب له , فما زلت حتى اليوم أدهش لهذه النرجسية , التي تدفع الرجال إلى التلهف على إنجاب من يحملون أسماءهم , على الرغم من أن هذا لن ينفعهم أو يضيرهم بعد موتهم , ورحيلهم عن دنيانا ..
ولكن الأستاذ (علوي) كان يتلهف لإنجاب ولد يحمل اسمه ..
ولقد حصل على مبتغاه ..
في المرة الثانية , أنجبت له زوجته ابنا , جعله يطير فرحا , ويدعو رواد المقهى كلهم لتناول المشروبات على نفقته ..
وبدا وكأن ذلك الابن قد أنساه الدنيا كلها , فلم يعد يزور زوجته الريفية في في قريتها , ولم يعد يهتم حتى بزوجته القاهرية ..
أصبح ابنه (أشرف) هو حياته كلها ..
وكان يفخر دوما بأن (أشرف) يحمل اسمه , حتى أنه لم يكن يقدمه إلى أي مخلوق , إلا باسمه الكامل .. (أشرف علوي) ..
وكبر (أشرف) ..
وكبرت معه فرحة الأستاذ (علوي) ..
واقتنص (أشرف) كل الخير من أخوته ..
كل الثياب الجديدة له ..
كل اللعب ..
كل النقود ..
ونشأ (أشرف) مدللا , فلم يتجاوز سنواته الدراسية إلا في صعوبة بالغة , حتى استقر به المقام في الثانوية العامة , فلم يفارقها أبدا ..
ولم يهتم الأستاذ (أشرف) بهذا كثيرا ..
كان يكفيه أن (أشرف) يحمل اسمه ..
وأنه سينقله إلى الأجيال القادمة ..
وفجأة ظهرت على (أشرف) علامات الثراء , سرت شائعة بأنه يعمل في تجارة العملة أو التهريب ..
ولكن الأستاذ (أشرف) لم يهتم أيضا ..
الاسم وحده كان يعنيه ..
وكان يفخر بابنه وثراء ابنه في كل المجالس ..
وفجأة طالعتنا صحف الصباح بخبر رهيب ..
لقد ألقي القبض على (أشرف) بتهمة التجسس لحساب دولة معادية ..
أشرف جـاســـوس !!
مفاجأة مذهلة للجميع ..
وبالذات للأستاذ (علوي) ..
لقد بدا في ذلك الصباح شاحبا ممتقعا , ذاهلا . وجلس على مقعده المعتاد في المقهى صامتا , واجما ..
ثم اندفع نحو بائع الصحف , وابتاع منه كل صحفه ..
وعاد إلى المقهى ..
وفي حزم أخرج من جيبه ممحاة , وراح يمسح اسم (أشـرف) من كل الصحف ..
كان يشعر بعار لا مثيل له , لأن الشاب الذي خان وطنه يحمل اسمه هو ..
ومنذ ذلك الحين , راح الأستاذ (علوي) يبتاع الصحف يوميا , بقدر ما تسمح به ميزانيته , ويجلس على المقهى بتصفحها كلمة كلمة , ويمحو بممحاته أي اسم يشبه اسمه .. مجرد شبه ..
وفقد الرجل عقله ..
فقده بسبب ولد ..
ولد يحمل اسمه ..
من كتاب ( التماس وقصص أخرى )
للمؤلف د . نبـيـل فــاروق
:)