سنفور غبي
01-09-2000, 11:59 PM
رأيته في جلبابٍ قذر، لا يُعرف له لون، مُنقر بحرق السجائر وأعواد الثقاب في غير موضع كجدار بيت قديم في بورسعيد أيام العدوان الثلاثي. يستوعبه كله داخله... ويبدو أن عمرَهُ أطولُ من عمر مرتديه، يعلوه وجه أسمر ممزوج بالشقاء وبه حلاوة وشعر أشعث لم يمُشط قط وأسفل هذا البنيان حذاء لجندي يبدو من منظره أنه شارك في الحرب العالمية الثانية وأبلى بلاء حسن. يضعُ بين شفتين سوداوين غليظتين سيجارة من تبغ رديء يحرقُها مثلما يُحرقُ في هذه الدنيا.
يحملُ على كتفه النحيل والذي مال ناحية حمله صندوق خشبي متهالك به عدة زجاجات لألوان كثيرة والتي أخذت تتخبط أثناء مشيته غير المنتظمة لتعزف لحن شقاء هذا الآدمي... ويطل من هذا الصندوق فرشاة ليس لها عمل غير تقبيل أحذية البشر!!
يمشى متسكعاً ناظراً إلى الأرض كمن يبحث عن شيء عزيز فقده... وكم من عزيز فقد.
يرى الناس من مرآة أحذيتهم فهذا فقير وذاك غنى وهذا فلاح والأخير جندي... وهكذا...
اقترب منى نظر إلى حذائي قبل وجهي وكأن الآية قد انقلبت لديه حيث أن بدء الحوار من عدمه يتوقف على شكل الحذاء لا على شكل مرتديه.
سألني تلمع يا باشا:- لم أدرى ساعتها ألم يصل إليه أن عهد الباشوات والبكوات قد ولى بلا رجعة منذ عهد الثورة.. أم أنه يدرى ولكن معنى باشا لديه أنني أرتدي حذاء غال… لست أدرى. لكنى لم أفق من تأملاتي حتى كرر السؤال ثانية تلمع يا باشا فأدركت على الفور أن تصنيف البشر في عالمه على حسب سعر الحذاء وشكله وبما أنني باشا فلابد أن ألمع حذائي فقد أقابل أحد الباشوات الآخرين دون تلميع، فأسرعت بإيماءة من رأسي دليل موافقتي.
فهمَ على عجلة واقترب منى فشممت منه رائحة دهان وصبغة الأحذية المنبعثة من حمله والتي لا يستطيع بشر تحملها إلا هو، جلس على كرسي صغير لا يناسبه وأسرع بإخراج أدواته بسرعةٍ تنُم على أنه يمارس المهنة منذ نعومة أظافره والتي اصطبغت بلون الدهانات العديدة وبدأ في تلميع الحذاء وهو يؤدى حركات بهلوانية بسيطة بفرشاته.
أخذ الأنفاس الأخيرة من السيجارة التي تحتضر بين إصبعيه وأخرج دخانها عبر فم شبه خال من الأسنان إلا من أطلال باقية كدليل على وجود أسنان بهذا الفم في الماضي التليد فبدا هذا الفم للحظة أشبه بمغارة أشعل فيها بعض الأطفال النار. ارتفعت الهمهمات التي يهمهمها حينما أنشغل تماماً في تلميع الحذاء فتبينت أنها أغنية لكوكب الشرق...
أغنية "الحـب كلـه حبيتـه فيـك"
لم أدرى في تلك اللحظة أيهما يحب؟؟ الحذاء... أم من يدفع ثمن تلميعه..!!
وائل محمد طه
الإسكندرية
3/6/1998
يحملُ على كتفه النحيل والذي مال ناحية حمله صندوق خشبي متهالك به عدة زجاجات لألوان كثيرة والتي أخذت تتخبط أثناء مشيته غير المنتظمة لتعزف لحن شقاء هذا الآدمي... ويطل من هذا الصندوق فرشاة ليس لها عمل غير تقبيل أحذية البشر!!
يمشى متسكعاً ناظراً إلى الأرض كمن يبحث عن شيء عزيز فقده... وكم من عزيز فقد.
يرى الناس من مرآة أحذيتهم فهذا فقير وذاك غنى وهذا فلاح والأخير جندي... وهكذا...
اقترب منى نظر إلى حذائي قبل وجهي وكأن الآية قد انقلبت لديه حيث أن بدء الحوار من عدمه يتوقف على شكل الحذاء لا على شكل مرتديه.
سألني تلمع يا باشا:- لم أدرى ساعتها ألم يصل إليه أن عهد الباشوات والبكوات قد ولى بلا رجعة منذ عهد الثورة.. أم أنه يدرى ولكن معنى باشا لديه أنني أرتدي حذاء غال… لست أدرى. لكنى لم أفق من تأملاتي حتى كرر السؤال ثانية تلمع يا باشا فأدركت على الفور أن تصنيف البشر في عالمه على حسب سعر الحذاء وشكله وبما أنني باشا فلابد أن ألمع حذائي فقد أقابل أحد الباشوات الآخرين دون تلميع، فأسرعت بإيماءة من رأسي دليل موافقتي.
فهمَ على عجلة واقترب منى فشممت منه رائحة دهان وصبغة الأحذية المنبعثة من حمله والتي لا يستطيع بشر تحملها إلا هو، جلس على كرسي صغير لا يناسبه وأسرع بإخراج أدواته بسرعةٍ تنُم على أنه يمارس المهنة منذ نعومة أظافره والتي اصطبغت بلون الدهانات العديدة وبدأ في تلميع الحذاء وهو يؤدى حركات بهلوانية بسيطة بفرشاته.
أخذ الأنفاس الأخيرة من السيجارة التي تحتضر بين إصبعيه وأخرج دخانها عبر فم شبه خال من الأسنان إلا من أطلال باقية كدليل على وجود أسنان بهذا الفم في الماضي التليد فبدا هذا الفم للحظة أشبه بمغارة أشعل فيها بعض الأطفال النار. ارتفعت الهمهمات التي يهمهمها حينما أنشغل تماماً في تلميع الحذاء فتبينت أنها أغنية لكوكب الشرق...
أغنية "الحـب كلـه حبيتـه فيـك"
لم أدرى في تلك اللحظة أيهما يحب؟؟ الحذاء... أم من يدفع ثمن تلميعه..!!
وائل محمد طه
الإسكندرية
3/6/1998