PDA

View Full Version : امرأة في ذاكرتي


البراء
19-08-2001, 03:32 PM
امرأة في ذاكرتي..!


سألناه أن يكتب عن شيء من ذكرياته للمرأة دور فيه… فجاءنا منه هذا المقال الذي هو بحق تحفة فنية

· عبد الوهاب الناصر الطريري

سألتني أن أكتب لك شيئاً من ذكرياتي مع المرأة ، وما كنت أحسب مسألتك ستثير من كوامن الشعور ، وخوافي الوجدان ما أثارت .
طار بليلى طائراً كان في صدري ***** دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
لقد استثرت ذكريات أعادتني إلى صبا الصبا وبدوات الشباب . وبيت من الطين في زقاق مسدود منشعب من سكك ( دخنة ) ودروبها .
وكانت دويرتنا هذه وإن ضاقت عن كثير من وسائل الترف إلا أن حجرها المتقاربة الجدر كانت مستودعاً لألوان من السعادة والإبهاج ، تمتعنا فيها واستمتعنا ، ثم فقدناها وما نسيناها . وكنا نعيش في اليوم ( 24 ) ساعة بكمالها ، لا يقتل من ساعات نهارنا إرهاق العمل وتعقيد الحياة ، ولا يسرق من ساعات ليلنا طول السهر ، فكان نهارنا معاشا ، ونومنا سباتا .
وكانت تلك المرأة تُفتِّق لنا أفواف الإيناس مع ساعات البكور ، وتهدهدها لنا عند الإمساء ، حتى لو فَقَدتَ الأُنس لوجدته ثاوياً في دارنا لا يبرح ، وكانت طفولتنا مشدودة إليها بحب وإعجاب يكبر معنا كلما كبرنا ، كانت جدتي التي لم تطفئ السنين وضاءتها ، ولم تَذْبل نضرة النعيم في محياها تعيش وتعيش بنا معها جواً عجيباً من السكينة والسكون وطمأنينة النفس .
كان لها في النهار سبح طويل ، يتنفس الصبح فتدب في البيت الحياة ، فما كنا عرفنا بعدُ إغماءة الصباح وسكرات الضحى ، فيبدأ يومنا معها بالتطهر في ساعات الضحى الأولى ثم الصلاة المطمئنة ، ثم تفترش في صحن البيت مصلاها وتنشر مصحفها وهو ذات المصحف الذي تعلّمتْ فيه قراءة القرآن أول ما تعلمته فصحبته أزيد من ستين سنةً حالَّة مرتحلة من أوله إلى آخره ، فتنصرم ساعات الضحى ولها دوي بالقرآن ، حتى إني لأظن اليوم أنها كانت تختم القرآن كل ثلاث ، فكان بيتنا منوّراً بالقرآن ، معطراً بالذكر كأنما تتنزل السكينة على جنباته ، حتى إذا استعر النهار قامت لتصلي صلاة الأوابين وتتهيأ بعدها لصلاة الظهر ، وكانت تؤدي الصلاة باحتفاء عجيب ، فمصلاها في حجرتها حمى مصان تعتني بتطهيره وتطييبه إلى حد المبالغة ، ولها ثوب سابغ للصلاة يتدلى سواكها من جيبه ، فإذا وقفت لصلاتها رأينا حالاً من التهيؤ تشعر أنها مقبلة على أمر عظيم ، ثم تترسل في أداء الرواتب بطمأنينة وأناة حتى إنا لنخرج للصلاة في المسجد ثم نعود وهي لما تنته من صلاتها بعد .
أما قبل صلاة العصر فإني أخف إليها بنسخة قديمة صفراء من كتاب ( رياض الصالحين ) أقرأ عليها أبواباً منه لا أدري كيف كانت قراءة الصبي حينها ؛ لكني أدري أنها تستمع الحديث وكأنها تعيشه مرأى ومسمعاً ، فإذا أُذِّن لصلاة العصر فزعت إلى صلاتها ثم نشرت مصحفها وشرعت في دوي محبب مع آيات القرآن إلى أن تختنق آخر ساعات النهار .
فإذا صلت صلاة المغرب فقلما تخلع ثوب صلاتها ولكن ترفع أكمامه وتستند إلى الجدار وتبدأ قراءة محفوظها من القرآن ، وغالباً ما تبدأ بسورة الملك فما بعدها . إلا ليلة الجمعة فتقرأ سورة الكهف ، فإذا أذن العشاء فإذا هي على تهيئها قامت فصلت العشاء ثم أتبعتها قدرا من ناشئة الليل ، وما هي إلا سويعة أو بعضها حتى يلف البيت سكون حبيب.
فقد كان ليلنا ليلاً على الحقيقة تحضننا مضاجعنا في ساعاته الأول ، فإذا كان ثلث الليل الآخر صلصلت ساعة كبيرة تعلن موعد صلاة التهجد لأهل قيام الليل ، وكانت هي المعنية من بيننا بذاك الرنين .
فياكم استيقظت في الهزيع الأخير من الليل فأراها واقفة تصلي فأتوثب للقيام ظناً منّي أنها تصلي صلاة الفجر فتشير إليّ أن نم فلم يؤذن الفجر بعد . فأعود إلى نومي وتعود هي إلى صلاتها .
ويا كم رأيت لغوب الصيام على شفتيها وهي تقطع نهارا حارا بعيد ما بين الطرفين ،لم تزرنا فيه وسائل التكييف إلا مروحة معلقة في السقف تحرك الهواء الساكن ليتحول إلى سموم لافح.
فيا لله من أيام مضت معها كانت مدر سـةُ القدوة ماثلةً لنا من حالها ، صلاةٌ بجلال، وصيام بمكابدة ، وتلاوة بتلذذ ، وعبادة بتأله ، ولهج بالذكر ، وأوقات معمورة بالخير .
وكانت بَرَكةً علينا أهلَ ذاك البيت بدعائها ، وصلاتها ، وتلاوتها ، وذكرها . وكأنما كانت تشع على نفوسنا من سكينة روحها وطمأنينة نفسها دفقا من السعادة والإيناس ، وهناء العيش ، وطيب الحياة .
ثم فقدتها وأنا أدلف إلى سنوات المراهقة وشرة الشباب ، فلا أنسى تلك الوحشة التي أظلمت لها نفسي يوم خلت منها دارنا فكأنما أخذت معها شعبة من قلوبنا .
فكأنــها وكأنــهم أحــلام ***** ثم انقضت تلك السنون وأهلها
واليوم وقد تقصفت بعدها الأيام ، وتدافعت السنون ، وأبعدنا عنها نحو من ربع قرن لا زالت لوعة فقدها حية في نفسي ، ومشاهدها ما ثلة أمامي ، وعظة حالها بالغة في قلبي أذكرها اليوم فأذكر امرأة أحسب أن أبا نعيم لو أدركها لجعلها في حلية الأولياء ، أو ابن الجوزي لأدرجها في صفوة الصفوة .
أذكرها فأذكر أنها بذاك النسك والتأله ، كانت من أهنأ الناس عيشا ، وأطيبهم نفساً ، وإن كان حظها من رفاهية الحياة جد قليل .
أذكرها فأذكر تلك الأيام الجميلة في البيوت العتيقة ، مع اجتماع الشمل ، والتفاف الأهل ، وقوة الأواصر ، واتساع أوقات الحياة .
فهذه يا أبا رناد بعض ذكرياتي مع المرأة مع جدتي أم ناصر فاطمة بنت عبد الله الرومي .
رحمها الله وجمعنا بها في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر .


أخوكم في الله البراء
عن موقع الاسلام اليوم

ARAE
19-08-2001, 03:35 PM
رحمها الله ياأخي البراء..

وجمعنا وإياك معها في دار الخلد أجمعين.

زمردة
19-08-2001, 04:02 PM
ما أحلى حياة تلك المرأة كلها عباده وذكر لله تعالى ..

أسال الله تعالى أن يغفر لها ويرحمها .. وأن يوفقنا مثلها إلى العبادة والذكر وتلاوة القرآن ..

جزاك الله خيراً البراء .. على هذه الموضوعات الطيبة الموجهة إلى كل خير :)

الخير
19-08-2001, 04:06 PM
ما أجمل الذكريات

عندما تكونبهذا الطهر والنقاء

جزاك الله خيرا يا أخي البراء .

البراء
19-08-2001, 10:03 PM
اخواني في الله عرعر، زمردة ،الخير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكمالله خير وهكذا يجب أن تكون حياة المسلم كلها لله .

رحم الله تلك المرأة الصالحة وجمعنا الله وإياها في دار النعيم

أخوكم في الله البراء