بو عبدالرحمن
20-02-2004, 02:24 AM
لا تستكثر دقائق معدودة لهذا الموضوع ، فإني أحسب أنه _ بإذن الله _ سيفتح بين يديك آفاقا رحبة ، ويرفعك إلى معارج عالية ، ويغرس في قلبك أنوارا تشدك إلى السماء بقوة ..
قال الراوي :
جلستُ إلى أخي الأثير أشكو إليه الفراغ وما يفعله بالإنسان ، وما يسوقه إليه من متاهات ، وما يدفعه إليه من سفاسف ..
فأخذ يحدثني حديثه الشائق عن أهمية الوقت ، وكونه كنز عظيم ثمين ، غير أن أكثر الناس يفرطون فيه ، وأخذ يؤكد على هذه القضية بنصوص من الوحي كثيرة ، ويلفت نظري إلي ما فيها من معانٍ ،
ثم قال : الكلمة الجامعة في هذا ، هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى .. أن الفراغ ( نعمة عظيمة ) مغبون فيها أكثر الناس ...
فكيف انقلبت ( النعمة ) إلى ( نقمة ) إذن .؟؟
ثم ساق إليّ شواهد من أقوال العلماء الربانيين ، وذكر حشداً من سير السلف الصالح واهتمامهم العجيب بقضية الوقت .. وحلى كلامه بأبيات من الشعر تتعلق بأهمية الوقت .. وهكذا مضى صاحبي يتدفق في حديث سلس شائق ومثير ..
فقلت له : نعم ..أنا لا أشك أن الأصل في حياة المسلم أنه لا وقت فراغ لديه ، وأنه سيجد بين يديه دوائر كثيرة من الأعمال الصالحة ، يتنقل بينها كأنه النحلة في المروج الخضراء ، يلتقط رحيقها ليعطر بعد ذلك الحياة من حوله ، فلا يخرج من عمل صالح ، إلا ليقع في عمل صالح ..
وقد ينتقل من عمل فاضل إلى عمل مفضول ، أو من عمل واجب مفروض ، إلى عمل مباح ينوي فيه نية حسنة فتصبح العادة عبادة .. وهكذا ..
أعود فأقول : هذا هو الأصل لا أشك في ذلك ولكن ....
ولكن أحياناً يعتري الإنسان انقباض من العمل جملة وتفصيلا ، فلا رغبة لديه في القيام بأي عملٍ كان ، رغم كثرة الأعمال التي تنتظر همته ..
ومن هنا يكون الفراغ قاتلاً ..
ابتسم أخي وقال :
رغم أني أكاد أفهم ما ترمي إليه ، ولكن دعني اسألك بصراحة ووضوح :
ماذا تعني بكون الفراغ يصبح قاتلاً ، مع أنه في الأصل نعمة عظيمة جدا يتكرم الله بها عليك ...
صمتُ برهة ، ثم تلعثمت قليلاً قبل أن أجيب :
بصراحة أقول لك ، فلعل الله يلهمك بعض المعاني التي تعينني لأتغلب مما أشكو منه ..
وعدتُ إلى كهف الصمت لترددي فيما أود قوله .. فأخذ يشجعني على الكلام ، فقلت :
بصراحة ، وفي الصراحة راحة ، في الوقت الذي أجد نفسي منقبضاً من العمل بالكلية ، ولا رغبة لدي في عمل شيء ، رغم تنوعها وكثرتها وبركتها ..
في ساعة الانقباض هذه ، أجدني اشعر بفراغ مما يترتب عليه أن يتمكن مني الشيطان بكل سهولة ، فيدفعني إلى عمل لا أحبه ، ولا أرضاه لنفسي ، وأندم عليه بعد الفراغ منه ..
وعاد صاحبي يبتسم حتى خيل إليّ أن وجهه يتلألأ .. ورفع صوته بالتسبيح :
سبحان الله .. سبحااااااان الله ...
وصمت قليلا وأخذ يحدق في وجهي باسما ثم قال :
ألم تقل قبل قليل أنك تمر في حالةٍ تكونُ منقبضاً عن أي عمل مهما دق ..
قلت في تلقائية : بلى .. هو كذلك ..
قال : طيب .. أوليستْ المعصية هي الأخرى ( عمل ) تقوم به !!؟
وكأنما باغتني السؤال فوجمت قليلاً ثم قلت :
بلى والله .. أياً كانت هذه المعصية فهي عمل أيضا يؤديه الإنسان ، ولو بالنظر إلى ما حرم الله سبحانه ..
فعاد صاحبي يرفع صوته بالتسبيح ويمد بها نبرته :
سبحان الله .. سبحااااااااان الله ..
إذن الاحجام والإنقباض عن ( عمل ) الصالحات التي تزيدك قربا من الله فحسب !!
أما السيئات والمعاصي فلا إحجام فيها ولا انقباض معها .. يا سبحان الله .. !
وسكت قليلا ثم قال باسماً :
فلماذا لا يكون الإحجام عن العمل بشكل عام ..!!! الطاعة والمعصية معاً !! ما دام هذا عمل وهذا عمل !!
أحسب أن عيني اتسعتا حتى أقصاهما وقلت في انبهار :
صدقت والله ... كيف غاب عني هذا الأمر البدهي .. ؟ مع أني ألاحظ نفسي أنني أكون في منتهى الإنقباض عن ( عمل ) الصالحات ، ثم تجدني فجأة أقطع وقتاً قد يطول في دائرة معصية ، ولو بمتابعة القنوات الفضائية وما فيها من إسفاف وهبوط ..
ولو أني قضيت هذا الوقت في طاعة ، لكان هذا أرفع لمنزلتي عند الله جل جلاله .
ولذت بالصمت وأنا أتمتم بالتسبيح لله وادارة عجلة فكري في هذه النقطة ..
ثم قلت :
أعود إلى سؤالي : ترى ما السر في هذا ؟
أن يكون منقبضا عن ( العمل ) ولكنه نشط في ذات الوقت إلى ( العمل ) !!!
رغم ما بين الصورتين من تفاوت رهيب ..
هذا يعليك ويرفعك عند الله ... وهذا قد يعرضك لسخطه عليك والعياذ بالله ..؟
سكت صاحبي قليلا ثم قال :
لا تفسير أمامي لهذه الظاهرة سوى أنه مكر الشيطان بالإنسان ، حيث يستغل الخبيث هذه الفرصة التي لاحت له ، فيشن حملات مكثفة لا هوادة فيها ، وبكل قوة ودهاء ، على قلب هذا الإنسان ، فيزين له ، ويحبب في عينيه ، ويهون عليه الانجراف ولو ساعة ، وتتوالى الإيحاءات الخبيثة بشكل سريع ، في ثانية يمرر مئات الخواطر والإيحاءات ليدفع بهذا المسكين إلى دائرة المعصية ..
لم أتمالك نفسي من الهتاف في فرح :
الله أكبر ..الله أكبر .. رائع والله .. واللهِ إني لأشعر لهذا المعنى وقع كبير وقوي في قلبي .. واصل يرحمك الله ..
قال :
الشيطان لم يمت بعد يا صاحبي !! ولا يزال يتربص بك الدوائر، فإن رآك في طاعة ، مقبلاً عليها ، حريصا عليها ، فإن هذا يغيظه اشد الغيظ ، وغاية ما يحاوله معك خلالها ، أن يشوش عليك حضور قلبك فيها ، لعله يفسد ( أثرها ) في قلبك ..
فإقبالك على الطاعة ، وحرصك عليها _ حتى مع عدم حضور قلبك فيها _ هذا مما يغيظ الشيطان غيظاً شديداً ، لأن غايته معك أبعد من مجرد التشويش عليك خلالها ، غايته ومراده ، وأمنيته ، وهدفه ، وتخطيطه ، أن يبعدك عن الطاعة بالكلية ، لتعرض عن باب الله تماماً ، وعندها يسهل عليه ركوبك !! ثم افتراسك !!
قلت في عجب : أفهم من كلامك أن مجرد إقبالي على الطاعة ، يغيظ الشيطان ؟
قال : أما أنا فلا اشك في ذلك أبدا ، لأنه لا يحب أن يراك طائعاً اصلاً ..
ومن هنا .. فحين يراك منقبضاً عن الطاعة ، فاتر الهمة عنها ، لا رغبة لديك في عمل أي شيء فيه خير ..
حين يراك كذلك ، فتلك هي فرصته المواتية التي لاحت له ، فانكشفت فيها حصون قلبك الحصينة أمام عينيه ، فشن غاراته عليك في استماتة ، ليجعلها قاعاً صفصفاً ، بعد أن كانت عامرة بشوارق أنوار الإيمان ..
وفي أقل من الثانية يحشد في ذهنك مئات الإيحاءات التي تزين لك الإقدام على المعصية .. فإذا أنت هناك حيث يحب ، وساعتها تقر بك عينه !!!
سألت : فما الحل في مثل هذه الحالة ؟
قال : بعد الاستعانة بالله والاعتماد الكلي عليه وحده ، والخروج من الحول والقوة إلى حول الله وقوته ..
حين تواتيك حالة الانقباض هذه ، قف مع نفسك قليلا لتسألها وهي تهم بالإقدام على المعصية التي يزينها الشيطان لعينيها الكليلتين !!
سلها بهدوء _ وبلا عصبية !! _ :
ألستِ أيتها الحبيبة تزعمين أنكِ منقبضة عن العمل ، فلا رغبة لك في شيء .. فكيف تنشطين إلى المعصية وهي ( عمل ) أيضا ً ..!
وأدر فكرك في هذه النقطة ، وأحسب أن الأقنعة سرعان ما تتساقط عن وجه الشيطان ويتكشف لك مكره بك ، وتتجلى لك بوضوح الخطوة التي يريد أن يشدك إليها ..
وعند هذه النقطة بادر على الفور ، واستعن بالله ،
واتبع سياسة قلب الطاولة ( وقد أفردنا لهذه السياسة موضوعا مستغلا تجده في الموقع على هذا الرابط :
http://www.alwahah.net/aalawi60/c14.htm
وخلاصة هذه السياسة :
حين يزين الشيطان لك معصية ، فقل له هازئاً به : منذ متى أصبحت ناصحاً يا رأس الشر وكل شر .!!؟
ثم بادر بعمل طاعة على الفور .. على عكس مراد الشيطان منك ..!!
عدت أهتف مكبراً مهللاً .. ثم قلت :
رااائع والله .. مع أني أرى أن الأمر ليس سهلاً كما قد يبدو ..
قال : خذها قاعدة لا تنساها ، وهي من بديهيات الحياة ..
في البداية كل الأمور لا تكون سهلة ..ولا سيما معالي الأمور ..
ولكن بالاستعانة بالله ، والإلحاح عليه بالدعاء ، ومواصلة المحاولة بعد المحاولة ، والإصرار على النجاح .. سوف يسهل عليك الأمر ، بل وستجد لذة خاصة فيها نكهة مميزة عجيبة في كل مرة تنجح في تنفيذ هذه السياسة مع الشيطان ..
قلت متسائلاً :
أراكَ تقول ( في كل مرة تنجح ) ومفهوم هذه الجملة أن انني لن أنجح دائما رغم محاولاتي وإصراري على النجاح .
ابتسم صاحبي وقال :
تذكر دائماً أن المعركة بينك وبين الشيطان لن تتوقف إلا بخروج الروح من الجسد ، ومعنى هذا أن الحرب سجال بينك وبينه ، فلا تنتظر أن تتغلب عليه في كل مرة ، بحيث يعجز عنك تماماً ، لأن هذا معناه أن تصبح معصوماً !! وهذه دعوى كبيرة ، فالعصمة لا تصح إلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أما أنت فيكيفك شرفا وفخراً ومجدا أنك تصر على مواصلة المعركة رغم شراستها ، ورغم خطورة العدو الذي تتصدى له ، بل وتصر أن تكون المنتصر فيها ..
ومهما حدث من انكسارات وعثرات فلا يعني الاستسلام ، بل الإصرار على الكر من جديد .. هذه طبيعة كل معركة بين عدوين منذ فجر التاريخ ..!
المهم لا تياس .. لا تنكسر .. لا ترفع راية التسليم أبداً ..
بل وطن نفسك على مواصلة الطريق رغم كل ما يقع وسط الغبار الكثيف لهذه المعركة الضارية المستمرة مع الأنفاس .. واستعن بالله ولا تعجز .. وثق أنك حين تكون كذلك فلن يضيعك الله جل جلاله ..
إن الله لا يضيع أجر المحسنين .. وحين تكون كذلك ، وتصر على ذلك ن فإني أحسبك تندرج في دائرة المحسنين الذين لن يضيعهم الله سبحانه ..
قال الراوي :
لم أملك غير أن ألهج بالشكر لأخي والدعاء له ، فقد شعرت أنه فتح أمام عيني _ بإذن الله _ آفاقا رحبة ، ورفعني معارج عالية ، وغرس في قلبي أنوارا تشدني إلى السماء بقوة ..
فلله ما أروع صحبة أصحاب القلوب المتصلة بالله ..
قال الراوي :
جلستُ إلى أخي الأثير أشكو إليه الفراغ وما يفعله بالإنسان ، وما يسوقه إليه من متاهات ، وما يدفعه إليه من سفاسف ..
فأخذ يحدثني حديثه الشائق عن أهمية الوقت ، وكونه كنز عظيم ثمين ، غير أن أكثر الناس يفرطون فيه ، وأخذ يؤكد على هذه القضية بنصوص من الوحي كثيرة ، ويلفت نظري إلي ما فيها من معانٍ ،
ثم قال : الكلمة الجامعة في هذا ، هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا ينطق عن الهوى .. أن الفراغ ( نعمة عظيمة ) مغبون فيها أكثر الناس ...
فكيف انقلبت ( النعمة ) إلى ( نقمة ) إذن .؟؟
ثم ساق إليّ شواهد من أقوال العلماء الربانيين ، وذكر حشداً من سير السلف الصالح واهتمامهم العجيب بقضية الوقت .. وحلى كلامه بأبيات من الشعر تتعلق بأهمية الوقت .. وهكذا مضى صاحبي يتدفق في حديث سلس شائق ومثير ..
فقلت له : نعم ..أنا لا أشك أن الأصل في حياة المسلم أنه لا وقت فراغ لديه ، وأنه سيجد بين يديه دوائر كثيرة من الأعمال الصالحة ، يتنقل بينها كأنه النحلة في المروج الخضراء ، يلتقط رحيقها ليعطر بعد ذلك الحياة من حوله ، فلا يخرج من عمل صالح ، إلا ليقع في عمل صالح ..
وقد ينتقل من عمل فاضل إلى عمل مفضول ، أو من عمل واجب مفروض ، إلى عمل مباح ينوي فيه نية حسنة فتصبح العادة عبادة .. وهكذا ..
أعود فأقول : هذا هو الأصل لا أشك في ذلك ولكن ....
ولكن أحياناً يعتري الإنسان انقباض من العمل جملة وتفصيلا ، فلا رغبة لديه في القيام بأي عملٍ كان ، رغم كثرة الأعمال التي تنتظر همته ..
ومن هنا يكون الفراغ قاتلاً ..
ابتسم أخي وقال :
رغم أني أكاد أفهم ما ترمي إليه ، ولكن دعني اسألك بصراحة ووضوح :
ماذا تعني بكون الفراغ يصبح قاتلاً ، مع أنه في الأصل نعمة عظيمة جدا يتكرم الله بها عليك ...
صمتُ برهة ، ثم تلعثمت قليلاً قبل أن أجيب :
بصراحة أقول لك ، فلعل الله يلهمك بعض المعاني التي تعينني لأتغلب مما أشكو منه ..
وعدتُ إلى كهف الصمت لترددي فيما أود قوله .. فأخذ يشجعني على الكلام ، فقلت :
بصراحة ، وفي الصراحة راحة ، في الوقت الذي أجد نفسي منقبضاً من العمل بالكلية ، ولا رغبة لدي في عمل شيء ، رغم تنوعها وكثرتها وبركتها ..
في ساعة الانقباض هذه ، أجدني اشعر بفراغ مما يترتب عليه أن يتمكن مني الشيطان بكل سهولة ، فيدفعني إلى عمل لا أحبه ، ولا أرضاه لنفسي ، وأندم عليه بعد الفراغ منه ..
وعاد صاحبي يبتسم حتى خيل إليّ أن وجهه يتلألأ .. ورفع صوته بالتسبيح :
سبحان الله .. سبحااااااان الله ...
وصمت قليلا وأخذ يحدق في وجهي باسما ثم قال :
ألم تقل قبل قليل أنك تمر في حالةٍ تكونُ منقبضاً عن أي عمل مهما دق ..
قلت في تلقائية : بلى .. هو كذلك ..
قال : طيب .. أوليستْ المعصية هي الأخرى ( عمل ) تقوم به !!؟
وكأنما باغتني السؤال فوجمت قليلاً ثم قلت :
بلى والله .. أياً كانت هذه المعصية فهي عمل أيضا يؤديه الإنسان ، ولو بالنظر إلى ما حرم الله سبحانه ..
فعاد صاحبي يرفع صوته بالتسبيح ويمد بها نبرته :
سبحان الله .. سبحااااااااان الله ..
إذن الاحجام والإنقباض عن ( عمل ) الصالحات التي تزيدك قربا من الله فحسب !!
أما السيئات والمعاصي فلا إحجام فيها ولا انقباض معها .. يا سبحان الله .. !
وسكت قليلا ثم قال باسماً :
فلماذا لا يكون الإحجام عن العمل بشكل عام ..!!! الطاعة والمعصية معاً !! ما دام هذا عمل وهذا عمل !!
أحسب أن عيني اتسعتا حتى أقصاهما وقلت في انبهار :
صدقت والله ... كيف غاب عني هذا الأمر البدهي .. ؟ مع أني ألاحظ نفسي أنني أكون في منتهى الإنقباض عن ( عمل ) الصالحات ، ثم تجدني فجأة أقطع وقتاً قد يطول في دائرة معصية ، ولو بمتابعة القنوات الفضائية وما فيها من إسفاف وهبوط ..
ولو أني قضيت هذا الوقت في طاعة ، لكان هذا أرفع لمنزلتي عند الله جل جلاله .
ولذت بالصمت وأنا أتمتم بالتسبيح لله وادارة عجلة فكري في هذه النقطة ..
ثم قلت :
أعود إلى سؤالي : ترى ما السر في هذا ؟
أن يكون منقبضا عن ( العمل ) ولكنه نشط في ذات الوقت إلى ( العمل ) !!!
رغم ما بين الصورتين من تفاوت رهيب ..
هذا يعليك ويرفعك عند الله ... وهذا قد يعرضك لسخطه عليك والعياذ بالله ..؟
سكت صاحبي قليلا ثم قال :
لا تفسير أمامي لهذه الظاهرة سوى أنه مكر الشيطان بالإنسان ، حيث يستغل الخبيث هذه الفرصة التي لاحت له ، فيشن حملات مكثفة لا هوادة فيها ، وبكل قوة ودهاء ، على قلب هذا الإنسان ، فيزين له ، ويحبب في عينيه ، ويهون عليه الانجراف ولو ساعة ، وتتوالى الإيحاءات الخبيثة بشكل سريع ، في ثانية يمرر مئات الخواطر والإيحاءات ليدفع بهذا المسكين إلى دائرة المعصية ..
لم أتمالك نفسي من الهتاف في فرح :
الله أكبر ..الله أكبر .. رائع والله .. واللهِ إني لأشعر لهذا المعنى وقع كبير وقوي في قلبي .. واصل يرحمك الله ..
قال :
الشيطان لم يمت بعد يا صاحبي !! ولا يزال يتربص بك الدوائر، فإن رآك في طاعة ، مقبلاً عليها ، حريصا عليها ، فإن هذا يغيظه اشد الغيظ ، وغاية ما يحاوله معك خلالها ، أن يشوش عليك حضور قلبك فيها ، لعله يفسد ( أثرها ) في قلبك ..
فإقبالك على الطاعة ، وحرصك عليها _ حتى مع عدم حضور قلبك فيها _ هذا مما يغيظ الشيطان غيظاً شديداً ، لأن غايته معك أبعد من مجرد التشويش عليك خلالها ، غايته ومراده ، وأمنيته ، وهدفه ، وتخطيطه ، أن يبعدك عن الطاعة بالكلية ، لتعرض عن باب الله تماماً ، وعندها يسهل عليه ركوبك !! ثم افتراسك !!
قلت في عجب : أفهم من كلامك أن مجرد إقبالي على الطاعة ، يغيظ الشيطان ؟
قال : أما أنا فلا اشك في ذلك أبدا ، لأنه لا يحب أن يراك طائعاً اصلاً ..
ومن هنا .. فحين يراك منقبضاً عن الطاعة ، فاتر الهمة عنها ، لا رغبة لديك في عمل أي شيء فيه خير ..
حين يراك كذلك ، فتلك هي فرصته المواتية التي لاحت له ، فانكشفت فيها حصون قلبك الحصينة أمام عينيه ، فشن غاراته عليك في استماتة ، ليجعلها قاعاً صفصفاً ، بعد أن كانت عامرة بشوارق أنوار الإيمان ..
وفي أقل من الثانية يحشد في ذهنك مئات الإيحاءات التي تزين لك الإقدام على المعصية .. فإذا أنت هناك حيث يحب ، وساعتها تقر بك عينه !!!
سألت : فما الحل في مثل هذه الحالة ؟
قال : بعد الاستعانة بالله والاعتماد الكلي عليه وحده ، والخروج من الحول والقوة إلى حول الله وقوته ..
حين تواتيك حالة الانقباض هذه ، قف مع نفسك قليلا لتسألها وهي تهم بالإقدام على المعصية التي يزينها الشيطان لعينيها الكليلتين !!
سلها بهدوء _ وبلا عصبية !! _ :
ألستِ أيتها الحبيبة تزعمين أنكِ منقبضة عن العمل ، فلا رغبة لك في شيء .. فكيف تنشطين إلى المعصية وهي ( عمل ) أيضا ً ..!
وأدر فكرك في هذه النقطة ، وأحسب أن الأقنعة سرعان ما تتساقط عن وجه الشيطان ويتكشف لك مكره بك ، وتتجلى لك بوضوح الخطوة التي يريد أن يشدك إليها ..
وعند هذه النقطة بادر على الفور ، واستعن بالله ،
واتبع سياسة قلب الطاولة ( وقد أفردنا لهذه السياسة موضوعا مستغلا تجده في الموقع على هذا الرابط :
http://www.alwahah.net/aalawi60/c14.htm
وخلاصة هذه السياسة :
حين يزين الشيطان لك معصية ، فقل له هازئاً به : منذ متى أصبحت ناصحاً يا رأس الشر وكل شر .!!؟
ثم بادر بعمل طاعة على الفور .. على عكس مراد الشيطان منك ..!!
عدت أهتف مكبراً مهللاً .. ثم قلت :
رااائع والله .. مع أني أرى أن الأمر ليس سهلاً كما قد يبدو ..
قال : خذها قاعدة لا تنساها ، وهي من بديهيات الحياة ..
في البداية كل الأمور لا تكون سهلة ..ولا سيما معالي الأمور ..
ولكن بالاستعانة بالله ، والإلحاح عليه بالدعاء ، ومواصلة المحاولة بعد المحاولة ، والإصرار على النجاح .. سوف يسهل عليك الأمر ، بل وستجد لذة خاصة فيها نكهة مميزة عجيبة في كل مرة تنجح في تنفيذ هذه السياسة مع الشيطان ..
قلت متسائلاً :
أراكَ تقول ( في كل مرة تنجح ) ومفهوم هذه الجملة أن انني لن أنجح دائما رغم محاولاتي وإصراري على النجاح .
ابتسم صاحبي وقال :
تذكر دائماً أن المعركة بينك وبين الشيطان لن تتوقف إلا بخروج الروح من الجسد ، ومعنى هذا أن الحرب سجال بينك وبينه ، فلا تنتظر أن تتغلب عليه في كل مرة ، بحيث يعجز عنك تماماً ، لأن هذا معناه أن تصبح معصوماً !! وهذه دعوى كبيرة ، فالعصمة لا تصح إلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أما أنت فيكيفك شرفا وفخراً ومجدا أنك تصر على مواصلة المعركة رغم شراستها ، ورغم خطورة العدو الذي تتصدى له ، بل وتصر أن تكون المنتصر فيها ..
ومهما حدث من انكسارات وعثرات فلا يعني الاستسلام ، بل الإصرار على الكر من جديد .. هذه طبيعة كل معركة بين عدوين منذ فجر التاريخ ..!
المهم لا تياس .. لا تنكسر .. لا ترفع راية التسليم أبداً ..
بل وطن نفسك على مواصلة الطريق رغم كل ما يقع وسط الغبار الكثيف لهذه المعركة الضارية المستمرة مع الأنفاس .. واستعن بالله ولا تعجز .. وثق أنك حين تكون كذلك فلن يضيعك الله جل جلاله ..
إن الله لا يضيع أجر المحسنين .. وحين تكون كذلك ، وتصر على ذلك ن فإني أحسبك تندرج في دائرة المحسنين الذين لن يضيعهم الله سبحانه ..
قال الراوي :
لم أملك غير أن ألهج بالشكر لأخي والدعاء له ، فقد شعرت أنه فتح أمام عيني _ بإذن الله _ آفاقا رحبة ، ورفعني معارج عالية ، وغرس في قلبي أنوارا تشدني إلى السماء بقوة ..
فلله ما أروع صحبة أصحاب القلوب المتصلة بالله ..