البدوني
30-01-2006, 11:39 AM
الكويت- عائشة الجيار**
البطالة.. أبرز أزمات البدون
رغم أن عمره تجاوز الثالثة والثلاثين بقليل، ومتزوج، فإن جاسم الذي يعيش في بيت أبيه بحي الصليبية الفقير في الكويت ما زال يعاني البطالة... وحتى إن نجح في الحصول على وظيفة فتكون لمدة شهر أو شهرين بعدها يعود ليحمل لقب عاطل.
مشكلة جاسم أنه من شريحة تسمى البدون في الكويت (***)، أي لا يحمل جنسية الدولة.. وبالتالي فليس معه إذن للعمل أو أي مستند يثبت هويته أو شهادة ميلاده هو أو أولاده أو زواجه أو حتى حين وفاته، ومثله في ذلك مثل 350 ألفا من البدون وفق الأرقام غير الرسمية، في حين تتحدث الأرقام الصادرة عن الدوائر الرسمية بأن عددهم يبلغ 120 ألفا.
كل ما يتمناه جاسم هو مجرد ورقة تشهد أنه مثل ابن عمه مشعل الذي استطاع أن يحصل على الجنسية الكويتية، وبعدها ستحل كل مشاكله، وسيعيش أحلى أيامه، ولكن كيف هي أيامه الآن بدون الجنسية؟.. دعونا نر ذلك.
السبت مثل الجمعة!
لا يفرق جاسم السبت من الجمعة، فكل الأيام سواء لديه، وفي كل يوم من هذه الأيام توقظه زوجته من النوم الساعة الواحدة ظهرا، وحديثها اليومي المعتاد: انهض يا جاسم.. ابحث عن عمل.. أريد أن أكون مثل كل النساء.. انهض واتركها على الله، سيكرمك الله بعمل.
تقترح الزوجة عليه أن يذهب لجراج السيارات (سوق تباع فيها السيارات المستعملة).. وتقول له: "أنت تفهم في السيارات... يمكن أن ترزق 20 دينارا (70 دولارًا) إحنا أولى بهم.. يلا يا جاسم...".
ينهض جاسم وعيناه مغلقتان ووجهه عابس، ويقول: "وإنتي فاكره أن السوق ناقصاني هناك.. هو الدلالين في السوق عارفين يطلعوا قوتهم لما أروح أقاسمهم فيه؟... الناس الآن خايفة على فلوسها لا تبيع ولا تشتري".
لا وظائف خالية
يتقلب جاسم في سريره ويأخذ الصحف الإعلانية المجانية التي تنشر الوظائف الخالية ليبحث عن عمل له، فلقد أصبح ذلك عمله الروتيني، فهو رغم محاولاته الكثيرة فإنه لا يكف عن طرق أي باب عمل قد يتوفر له.
أبو جاسم ينادي ابنه: "تو الناس يا بني (تعبير ساخر يشير إلى أن الوقت ما زال باكرا) الساعة الحين 2.5 وطلعت من دوامي (عملي) وأنت ما زلت نائما". والد جاسم يعمل عسكريا في وزارة الدفاع، وهو من المحظوظين من البدون؛ لأنه ما زال يعمل في وظيفة حكومية، ونظرا لخدماته لم يفصل من عمله في عملية "التكويت" (إحلال العمالة الكويتية بدل غير الكويتيين)، وراتبه 300 دينار (الدينار = 3.4 دولارات)، ومنه ينفق على أبنائه الخمسة، ومنهم جاسم وأسرته.
أخيرا يقوم جاسم من سريره، ويتجه لباحة المنزل، وينظر للسماء ويتمطى بذراعيه، ويتساءل: متي سترضى الحياة عنا نحن العاطلين، ويرن هاتفه النقال.. إنه ابن عمه مشعل الذي يعمل في إحدى الوزارات الكويتية يستعجله الحضور؛ لأنهم سيطلعون البر معا (الصحراء حيث الخيام المعدة للاستجمام).
وفي البر يقضي جاسم بقية النهار ويتحسر عما يراه ولا تعجبه الصحبة.. فهم يملكون وهو لا يملك فيعود مبكرا عن عادته، ويدخل على زوجته وأولاده ويداه فارغتان. ويجلس بجوار والده الذي يقول له: "جاسم فيه شركة فيها مندوب مصري سيأخذ إجازة شهرين، وأنا أعرف واحدا هناك طلبت أن يتوسط لك لتعمل هناك.. الراتب 150 دينارا ليس الأمر سيئا على الأقل.. تشتري ملابس جديدة لأبنائك...".
يوم المقابلة
في اليوم التالي يستيقظ جاسم مبكرا، وبصعوبة بالغة ليذهب إلى الشركة التي بها الوظيفة، ويقابله المدير المسئول ويسأله: هل تعرف مناطق الكويت؟
جاسم: طبعا أنا كويتي.
المسئول: ماذا تقول؟ أين جنسيتك إذن؟
جاسم يطأطئ برأسه: قريبا إن شاء الله.
المسئول: ليكن في علمك بنزين السيارة عليك، واتصالاتنا في الهاتف النقال لك عليك أيضا، وأي تأخير عليك بالخصم.
جاسم: حاضر إن شاء الله خير، لكن كم سيبقى من الراتب؟
المسئول: سنتصل بك عندما يسافر المندوب.
يخرج جاسم من الشركة، وهو يعلم أنه لن يتصل به، ويقذف بقدمه أمامه، إنه يريد أن يقذف بحياته، فإذا فكر في العمل الحر لا بد له من رأس المال، كما أنه لا يعرف مهنة.. فقد درس فقط حتى الثانوية العامة، ولم يستطع استكمال تعليمه بسبب أنه ليس معه أوراقه الثبوتية.. إنه لا يستطيع حتى الخروج من البلد أو السفر لأي مكان.
وحتى عندما تزوج جاسم تم ذلك من خلال مجلس عرفي عند كبير العائلة، واعتمد على الإشهار؛ لأنه لا يملك أي أوراق ثبوتية، بل إنه لم يستخرج شهادة ميلاد لطفليه ولا حتى قسيمة زواج له.. فوالده نفسه لا يملكها في حين عمه شقيق والده يملك تلك الأوراق.
يحدث جاسم نفسه قائلا: "آه لو حصل على الجنسية ستنقلب حياته.. سآتي هذا المسئول، وسأرى كيف سيعاملني حينها عندما أصبح معي جنسية كويتية سأشتري سيارة جديدة أحدث موديل، وأنتقل لشقة فاخرة حتى أستلم قسيمة الأرض، وأبني عليها بيت العمر مثل مشعل، وسأشتري لأبنائي كل ما يريدون".
ويسرح بالأحلام، ويفيق على صوت اصطدام سيارته بالسيارة التي أمامه.. فهو لم يلحظ أن الإشارة أصبحت حمراء.. ومنعته أحلامه من أن يرى الواقع، ونزل جاسم من السيارة يسترضي صاحب السيارة الأخرى. حمدا لله أنه هندي الجنسية فلن يبالغ في ثمن التصليح أو يطلب الشرطة، واتفق معه أن يذهب لجراج تصليح، ويتكفل بإصلاحها، وبالفعل ذهب معه، والمطلوب 70 دينارا.
هذا المبلغ غير موجود في بيت جاسم، كما أنه لا يستطيع أن يطلبه من والده، فيكفي ما يتحمله، والآن ليس أمامه إلا مشعل يطلبه منه رغم أن ديونه ثقلت لابن عمه الذي بدأ يتذمر، لكنه أرسل سائقه الهندي، ومعه النقود ويحمد جاسم الله أنه تخلص من ورطته مؤقتا، ويخلع عقاله وغترته بيديه وتحتبس الدموع في عينيه، ويرجع لبيته ليحبس نفسه فيه مع طفليه.
وتعود الكرة
تنتاب جاسم هذه المشاعر أن يحبس نفسه ويهرب بالنوم، وتحت إلحاح زوجته ووالده وتشجيعهم له يخرج مره أخرى لتعود الكرة من جديد والاستيقاظ المتأخر والخروج بعد العصر مع رفاقه.
بدأ في الآونة الأخيرة يفضل صحبة العاطلين مثله، فمشاعرهم واحدة، ويتنقلون بين الأسواق، أو يتمشون على الخليج، ثم إلى ديوانية أحدهم يجلسون ويشاهدون الفضائيات ويلعبون الورق (الكوتشينة)، ويتحدثون في كل شيء من السياسة إلى الفكاهة حتى ساعات متأخرة من الليل.
يعود لبيته فيجد الجميع نائمين في البيت.. تتناول يديه الريموت ويدير التلفزيون ويجلس أمامه حتى يرهق، وقبل أن يغالبه النعاس يسمع أذان الفجر فيتوضأ ويصلي فهو لم يهمل قط فرضا، ويدعو الله أن يزيل همه وكربه، وأن يمنحه عملا دائما حتى ولو براتب قليل.. ينام جاسم ليحلم أنه أخيرا حصل على الجنسية، وتحققت أحلامه، وانتهت معه أيضا آلامه.
البطالة.. أبرز أزمات البدون
رغم أن عمره تجاوز الثالثة والثلاثين بقليل، ومتزوج، فإن جاسم الذي يعيش في بيت أبيه بحي الصليبية الفقير في الكويت ما زال يعاني البطالة... وحتى إن نجح في الحصول على وظيفة فتكون لمدة شهر أو شهرين بعدها يعود ليحمل لقب عاطل.
مشكلة جاسم أنه من شريحة تسمى البدون في الكويت (***)، أي لا يحمل جنسية الدولة.. وبالتالي فليس معه إذن للعمل أو أي مستند يثبت هويته أو شهادة ميلاده هو أو أولاده أو زواجه أو حتى حين وفاته، ومثله في ذلك مثل 350 ألفا من البدون وفق الأرقام غير الرسمية، في حين تتحدث الأرقام الصادرة عن الدوائر الرسمية بأن عددهم يبلغ 120 ألفا.
كل ما يتمناه جاسم هو مجرد ورقة تشهد أنه مثل ابن عمه مشعل الذي استطاع أن يحصل على الجنسية الكويتية، وبعدها ستحل كل مشاكله، وسيعيش أحلى أيامه، ولكن كيف هي أيامه الآن بدون الجنسية؟.. دعونا نر ذلك.
السبت مثل الجمعة!
لا يفرق جاسم السبت من الجمعة، فكل الأيام سواء لديه، وفي كل يوم من هذه الأيام توقظه زوجته من النوم الساعة الواحدة ظهرا، وحديثها اليومي المعتاد: انهض يا جاسم.. ابحث عن عمل.. أريد أن أكون مثل كل النساء.. انهض واتركها على الله، سيكرمك الله بعمل.
تقترح الزوجة عليه أن يذهب لجراج السيارات (سوق تباع فيها السيارات المستعملة).. وتقول له: "أنت تفهم في السيارات... يمكن أن ترزق 20 دينارا (70 دولارًا) إحنا أولى بهم.. يلا يا جاسم...".
ينهض جاسم وعيناه مغلقتان ووجهه عابس، ويقول: "وإنتي فاكره أن السوق ناقصاني هناك.. هو الدلالين في السوق عارفين يطلعوا قوتهم لما أروح أقاسمهم فيه؟... الناس الآن خايفة على فلوسها لا تبيع ولا تشتري".
لا وظائف خالية
يتقلب جاسم في سريره ويأخذ الصحف الإعلانية المجانية التي تنشر الوظائف الخالية ليبحث عن عمل له، فلقد أصبح ذلك عمله الروتيني، فهو رغم محاولاته الكثيرة فإنه لا يكف عن طرق أي باب عمل قد يتوفر له.
أبو جاسم ينادي ابنه: "تو الناس يا بني (تعبير ساخر يشير إلى أن الوقت ما زال باكرا) الساعة الحين 2.5 وطلعت من دوامي (عملي) وأنت ما زلت نائما". والد جاسم يعمل عسكريا في وزارة الدفاع، وهو من المحظوظين من البدون؛ لأنه ما زال يعمل في وظيفة حكومية، ونظرا لخدماته لم يفصل من عمله في عملية "التكويت" (إحلال العمالة الكويتية بدل غير الكويتيين)، وراتبه 300 دينار (الدينار = 3.4 دولارات)، ومنه ينفق على أبنائه الخمسة، ومنهم جاسم وأسرته.
أخيرا يقوم جاسم من سريره، ويتجه لباحة المنزل، وينظر للسماء ويتمطى بذراعيه، ويتساءل: متي سترضى الحياة عنا نحن العاطلين، ويرن هاتفه النقال.. إنه ابن عمه مشعل الذي يعمل في إحدى الوزارات الكويتية يستعجله الحضور؛ لأنهم سيطلعون البر معا (الصحراء حيث الخيام المعدة للاستجمام).
وفي البر يقضي جاسم بقية النهار ويتحسر عما يراه ولا تعجبه الصحبة.. فهم يملكون وهو لا يملك فيعود مبكرا عن عادته، ويدخل على زوجته وأولاده ويداه فارغتان. ويجلس بجوار والده الذي يقول له: "جاسم فيه شركة فيها مندوب مصري سيأخذ إجازة شهرين، وأنا أعرف واحدا هناك طلبت أن يتوسط لك لتعمل هناك.. الراتب 150 دينارا ليس الأمر سيئا على الأقل.. تشتري ملابس جديدة لأبنائك...".
يوم المقابلة
في اليوم التالي يستيقظ جاسم مبكرا، وبصعوبة بالغة ليذهب إلى الشركة التي بها الوظيفة، ويقابله المدير المسئول ويسأله: هل تعرف مناطق الكويت؟
جاسم: طبعا أنا كويتي.
المسئول: ماذا تقول؟ أين جنسيتك إذن؟
جاسم يطأطئ برأسه: قريبا إن شاء الله.
المسئول: ليكن في علمك بنزين السيارة عليك، واتصالاتنا في الهاتف النقال لك عليك أيضا، وأي تأخير عليك بالخصم.
جاسم: حاضر إن شاء الله خير، لكن كم سيبقى من الراتب؟
المسئول: سنتصل بك عندما يسافر المندوب.
يخرج جاسم من الشركة، وهو يعلم أنه لن يتصل به، ويقذف بقدمه أمامه، إنه يريد أن يقذف بحياته، فإذا فكر في العمل الحر لا بد له من رأس المال، كما أنه لا يعرف مهنة.. فقد درس فقط حتى الثانوية العامة، ولم يستطع استكمال تعليمه بسبب أنه ليس معه أوراقه الثبوتية.. إنه لا يستطيع حتى الخروج من البلد أو السفر لأي مكان.
وحتى عندما تزوج جاسم تم ذلك من خلال مجلس عرفي عند كبير العائلة، واعتمد على الإشهار؛ لأنه لا يملك أي أوراق ثبوتية، بل إنه لم يستخرج شهادة ميلاد لطفليه ولا حتى قسيمة زواج له.. فوالده نفسه لا يملكها في حين عمه شقيق والده يملك تلك الأوراق.
يحدث جاسم نفسه قائلا: "آه لو حصل على الجنسية ستنقلب حياته.. سآتي هذا المسئول، وسأرى كيف سيعاملني حينها عندما أصبح معي جنسية كويتية سأشتري سيارة جديدة أحدث موديل، وأنتقل لشقة فاخرة حتى أستلم قسيمة الأرض، وأبني عليها بيت العمر مثل مشعل، وسأشتري لأبنائي كل ما يريدون".
ويسرح بالأحلام، ويفيق على صوت اصطدام سيارته بالسيارة التي أمامه.. فهو لم يلحظ أن الإشارة أصبحت حمراء.. ومنعته أحلامه من أن يرى الواقع، ونزل جاسم من السيارة يسترضي صاحب السيارة الأخرى. حمدا لله أنه هندي الجنسية فلن يبالغ في ثمن التصليح أو يطلب الشرطة، واتفق معه أن يذهب لجراج تصليح، ويتكفل بإصلاحها، وبالفعل ذهب معه، والمطلوب 70 دينارا.
هذا المبلغ غير موجود في بيت جاسم، كما أنه لا يستطيع أن يطلبه من والده، فيكفي ما يتحمله، والآن ليس أمامه إلا مشعل يطلبه منه رغم أن ديونه ثقلت لابن عمه الذي بدأ يتذمر، لكنه أرسل سائقه الهندي، ومعه النقود ويحمد جاسم الله أنه تخلص من ورطته مؤقتا، ويخلع عقاله وغترته بيديه وتحتبس الدموع في عينيه، ويرجع لبيته ليحبس نفسه فيه مع طفليه.
وتعود الكرة
تنتاب جاسم هذه المشاعر أن يحبس نفسه ويهرب بالنوم، وتحت إلحاح زوجته ووالده وتشجيعهم له يخرج مره أخرى لتعود الكرة من جديد والاستيقاظ المتأخر والخروج بعد العصر مع رفاقه.
بدأ في الآونة الأخيرة يفضل صحبة العاطلين مثله، فمشاعرهم واحدة، ويتنقلون بين الأسواق، أو يتمشون على الخليج، ثم إلى ديوانية أحدهم يجلسون ويشاهدون الفضائيات ويلعبون الورق (الكوتشينة)، ويتحدثون في كل شيء من السياسة إلى الفكاهة حتى ساعات متأخرة من الليل.
يعود لبيته فيجد الجميع نائمين في البيت.. تتناول يديه الريموت ويدير التلفزيون ويجلس أمامه حتى يرهق، وقبل أن يغالبه النعاس يسمع أذان الفجر فيتوضأ ويصلي فهو لم يهمل قط فرضا، ويدعو الله أن يزيل همه وكربه، وأن يمنحه عملا دائما حتى ولو براتب قليل.. ينام جاسم ليحلم أنه أخيرا حصل على الجنسية، وتحققت أحلامه، وانتهت معه أيضا آلامه.