PDA

View Full Version : محمد الدّرة يستصرخكم: أريد سلاما بحجم الشهادة


تفاحة
06-10-2000, 05:35 AM
بقلم // إياد أبو شقرا


سموها ما شئتم ان تسموها... «ثورة القدس»، «انتفاضة الاقصى»، «الانتفاضة الثانية»..
كل هذا عندي مجرد تسميات، اما الواقع فتختصره معاناة شعب، تتجسد ومن ثم تختزل ببضع صور للحظات الاخيرة من عمر طفل اسمه محمد جمال الدرة.
لقد صنع محمد جمال الدرة، ابن الـ 12 سنة، باستشهاده ما عجزت عن تدبيجه الاف الاقلام، وعن التعبير عنه عشرات الالاف من الحناجر، وملايين الكلمات والزيارات و«التضامنات» الدبلوماسية الفارغة. وانطبع وجه محمد.. البريء.. المذعور.. قبل ثانيتين او ثلاث من استشهاده في الذاكرة الجماعية للبشرية... او على الاقل، ذاكرة من ما زال يتفاعل مع العالم ويعتبر نفسه جزءا منه...
فحتى الدبلوماسية الاميركية المحكومة بسطوة الصور التلفزيونية وتقارير المراسلين... تحركت.
... والرأي العام الاسرائيلي خجل وارتبك... فتعلثم وتناقض مع نفسه، مفضلا الا يصدق فظائع ذلك الفيلم.
ولكن، لتجار السلام المشوه المقزم، والمراهنين على صفقات استسلامية سريعة يروج لها وتسوق تحت بيارق الواقعية السياسية... يجب ان تظل صور محمد الدرة تذكيرا قاسيا بأن الصفقات الفوقية امعان في التآمر. وان تكنولوجيا الابادة وهمجية الاستعلاء قد تكسبان اليوم، وقد تكسبان في الغد، الا ان نبض الحقوق الانسانية المشروعة قادر على نسف كل آليات التسويق والضغط والكذب على الناس.
ولكن، ماذا لو ابتعدنا قليلا عن العاطفة لكي نتكلم في السياسة...
ما هو المطلوب الان بالضبط، في ما يخص المسار الفلسطيني؟ ومن هو المسؤول حقا عن أحداث الايام الماضية؟ وكيف يتصرف الراعي الاميركي ازاء كل ما يحدث؟
ولنبدأ الاجابات بالاجابة عن السؤال الاخير...
لدى الراعي الاميركي، اساسا، مواقفه «المبدئية» التي اضحت ثوابت للسياسة الاميركية، عبر حزبيها الكبيرين المتنافسين خلال الاسابيع القليلة المقبلة في انتخابات الرئاسة والكونجرس وحكام الولايات. ورغم الفضائح والتجاوزات.. من نوعية «فضيحة جوناثان بولارد» و«مسألة مارتن انديك»، التي تعد من قبيل «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة...» فواشنطن ما زالت وستظل تعتبر اسرائيل حليفها الاستراتيجي الاول في المنطقة.
واشنطن مقتنعة بان ازدهار اسرائيل وامن اسرائيل ومستقبل اسرائيل ـ وهذا يعني بالضرورة هيمنة اسرائيل الاقليمية ـ مسائل لا تقبل الجدل والتشكيك...
اكثر من هذا، مع الاخذ في الحساب «المشهد الاقليمي» في الشرق الاوسط، اسرائيل كانت وما زالت وستبقى المعيار الاختباري لتطوير اي علاقة مستقبلية اميركية مع اي من دول المنطقة. فالمسافات الفاصلة بين اي عاصمة اقليمية بواشنطن تتحدد بقرب هذه العاصمة سياسيا وبعدها عن تل ابيب. واي نظام عربي محكوم سلفا بتوصية اسرائيلية لدخول فردوس الرضى الاميركي، وما ادراك ما هو فردوس الرضى هذا في عصر «العولمة».
اما الجانب الفلسطيني، المسحوب سحبا الى باريس ومن ثم الى شرم الشيخ، فصار محاورا مقبولا ـ او غير مغضوب عليه ـ بعدما قدم ما عليه من فروض «الاعتدال» و«الحكمة» و«المفاوضات السرية» ابتداء من اوسلو.
وبالتالي فهو سيظل مقبولا عند مادلين اولبرايت طالما ابدى كامل الاستعداد لمحاورة ايهود باراك والاصغاء لبنيامين نتنياهو.
اي بالمختصر المفيد.. الضغط الاميركي عندما يمارس على ايهود باراك وياسر عرفات ليس متوازيا وليس متساويا ولا ينطلق من نفس الخلفيات.. وبطبيعة الحال علينا ان نتذكر دائما ان الصوت اليهودي مؤثر في معركة الانتخابات الاميركية، والطيبة الذكر هيلاري كلينتون مرشحة في نيويورك... لا دير البلح.
من هو المسؤول عن احداث الايام الماضية في الاراضي الفلسطينية المحتلة؟
المنطق يقول ان المسؤولية موزعة على الافرقاء الذين رفضوا ان يقرأوا الحقائق في العمق وبالصدق اللازم مع النفس ومع الاخرين.
فالحكومة العمالية الاسرائيلية فضلت خلال الاشهر الفائتة التواطؤ مع اليمين «الليكودي» ومسايرة ابتزازه على المضي قدما في عقد صفقة مع الفلسطينيين تؤسس لبناء حد ادنى من الثقة. وهي بذا تتحمل قسطا كبيرا في تحول الاحتقان، الى انفجار ومن ثم الى «انتفاضة» .
والقيادة الفلسطينية المتورطة في منزلق لا ينتهي من التنازلات، خفضت منذ اوسلو سقف محظوراتها وبالتالي فهي ايضا مسؤولة.
ويجب القول ايضا ان المناخ العربي العام المحيط بها كان عنصر ضغط سلبيا عليها من خلال تعجله التطبيع مع اسرائيل، وركضه نحو اي فرصة تساهم في تفتيت اي مسعى جماعي للصمود وممارسة الضغط المعاكس. والشيء الاكيد الذي لا بد لأي مراقب منصف ملاحظته ان سلبيات الموقف العربي انعكست على المشهد الفلسطيني الداخلي. وما زالت هذه السلبيات موجودة وناشطة... ومؤثرة ـ سلبا بالطبع ـ على اوضاع الفلسطينيين وقوتهم التفاوضية.
واشنطن، حتما، مسؤولة عما حدث وعما سيحدث ليس لانها «راعية» لمسيرة السلام الشرق اوسطية، بل لانها راع سيئ ومنحاز، ويتعامل مع مسألة السلام الاقليمي من منظورين لا يأخذ اي منهما في الاعتبار جوهر الازمة: المنظور الاول، هو الالتزام الكامل بالموقف الرسمي الاسرائيلي. والمنظور الثاني: رهنه حساباته بمعركة الانتخابات الاميركية. وكان هذا القصور الاميركي الفاضح في التعمق بما يجب التعمق فيه قد كشف صحافيا في الفترة الاخيرة عندما نقل عن قيادات بارزة معنية بمسيرة السلام «اعترافها» بأن واشنطن اخطأت تقدير اهمية موضوع القدس للمسلمين عموما.. وليس فقط للفلسطينيين!!
هنا نصل الى مربط الفرس... ما هو المطلوب الآن؟
المطلوب، حتما، تطور سياسي جذري يتجاوز الترتيبات الامنية وتلميع الصور.
ان دماء الشهداء الذين استشهدوا خلال الايام الماضية، والمشاهد التي هزت المشاعر والضمائر وزلزلت العديد من الاوهام... والحسابات، باتت كلفة باهظة على اي طرف تسول له نفسه تجاهلها او القفز من فوقها.
والقضايا التي جرى ترحيلها او تأجيلها الى «مرحلة مستقبلية ما» كالبت في مصير القدس، ومصير اللاجئين واعلان «الدولة الفلسطينية»، اخطر بكثير من ان تنتظر كيف سيقرر ناخبو ولاية نيوهامبشير ان يصوتوا يوم 7 نوفمبر (تشرين الثاني). ولئن كانت قضايا القدس ومصير اللاجئين و«الدولة» هامشية او جزئية لابناء دسكرة «ديكسفيلد نوتش»... فهي ليست كذلك لابناء فلسطين، ولا لمن نشأ وتربى ويصر على ان يموت في القدس ومن اجل القدس... ولا هي كذلك ابدا لجمال الدرة وعائلة جمال الدرة وشهيدها البريء الصغير.


عن جريدة الشرق الاوسط //

تحياتي //