الطارق
30-06-2001, 03:29 AM
حوار مع الجاحظ ( 1 ) :
لو يمسخ الخنزير ثانيا ** ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه ** وهو القذى في كل طرف لاحظ
انطبقت صورة هذا الشعر على محاوري الذي كان جاحظ العينين بارزهما
مشوه الوجه ، يميل وجه إلى السواد .
ورغم هذا فقد أعجب به عظماء عصرة وأجلوه رغم قبحه حتى قال أحد الشعراء في رثاءه :
ولقد رأيت الظرف دهـ ** ـراً ما حواه اللافظ
حتى أقـــــام طريقه ** عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به ** وهو الرئيس الفائظ
سلمت على شيخنا وشيخ الأدب العربي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وأعلنت فخري واعتزازي قبطتي لمحاورة هذا العلم الشامخ في تاريخ الأدب العرب والعالمي ، فشكرني على هذا الحوار :
الطارق : بداية الأمر .. أحببنا شيخنا الفاضل أن تعرفنا بنفسك اختصارا ؟!
أبو عثمان الجاحظ : حسنا .. أنا أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الكناني الليثي ، وعرفت اختصار بذلك الاسم الشهير الجاحظ .
كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ( 1 )
الطارق : حسنا .. شيخنا الفاضل .. أحببنا أن نتباحث قضية أثارت جدل في نسبك فقد قيل أنك مولى وقيل أنك عربي الأصل ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد قيل أن جدي فزارة كان مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع بن عباد بن القلمس الكناني الفقمي .
و أن جدي فزارة كان أسود اللون وكان جمالا لعمرو بن قلع هذا ، أي أن أصولي ترجع إلى الجنس الإفريقي الذي اختلط بالعرب بعد الإسلام ( 2 )
الطارق : إلا أن البعض يدعي أنك من أصل عربي ويدعي أن الرواية التي تذكر أنك ذو أصل أفريقي مختلقة ومنحولة إذ لم ترد من مصدر موثوق به ، كما أنه لم يعيرك أحد من الشعراء بالرق ولا بإنك مولى لأحد .
كما أنك في الكثير من كتبك ورسائلك صرحت بإنك من العرب ( 2 ) ؟!
( وهز الجاحظ رأسه مبتسما ) وأكملت أنا حديثي :
الطارق : بل وما يدل على أنك عربي قول الجماز فيك :
قال عمرو مفاخراً ** نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لربـ ** ـك أبليت ذا السب ( 3 )
ورغم هذا فقد ألفت أيضا رسالة في مدح السود ( فخر السودان على البيضان ) وقد تدل هذه الرسالة على أنك ليس بالعربي ؟!
الجاحظ : وألفت رسالة في مناقب الترك ، فهل تعني هذه أني تركي !!
الطارق : حسنا .. حسنا .. أحبنا أن تخبرنا عن سنة مولدك ؟!
الجاحظ : حسنا .. ولدت بالبصرة سنة 150 هـ ، فقد ولدت قبل أبي نواس بسنة ، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وولد أبو نواس في آخرها ( 4 ).
الطارق : ويقال أنك ولدت سنة 163 هـ ( 1 ) ويقال أيضاً أنك ولدت سنة 159 هـ ( 5 ) وهو ما يأخذ به الكتاب المعاصرون وربما لقصة تروى عند مرضك عندما أصابك الفالج ( الشلل ) عندما وصفت حالك في تلك الفترة وقلت ( وأشد ما علي ست وتسعون سنة ) ( 6 ) فجزموا أن هذه القصة حدثت في أخر سنة من حياتك أي سنة 255 هـ .
الجاحظ : لقد قلت لك من قبل أني ولدت سنة 150 هـ .. لا أدري لما لست مقتنع بأني ولدت في تلك السنة ... لربما لا تصدق أني قد بلغت من العمر 105 سنة !!
الطارق : حسنا .. ليس يهمنا أن كنت قد بلغت كل هذا العمر أو أقل .. أحببنا أن تحدثنا عن نشأتك ؟!
الجاحظ : ولدت في البصرة كما قلت عن أبوين فقيرين .. وسريعا ما توفي والدي وأنا صغير .. وربتني والدتي بعد ذلك .. ودخلت في صباي الكتاب لأتعلم القراءة والكتابة وأخذت أتردد على حلقات العلم في مسجد البصرة الجامع وأذهب إلى المربد للعلم وتلقف الفصاحة .. كما كنت أبيع الخبز والسمك عند نهر سيحان بالبصرة ..( 7 )
الطارق : وقد كانت والدتك تغضب من انصرافك للعلم ، وتركك العمل ؟!
الجاحظ : نعم .. إلى درجة أنها قدمت إلي الكراريس عندما طلبت منها الطعام ، فقلت : ما هذا ، فقالت : هذا الذي تجيء به .
فخرجت مغموما وجلست في جامع البصرة فرآني يونس بن عمران ( أ ). مغموما فسألني ما شأني فأخبرته بخبري فأعطاني خمسين دينار وعدت إلى والدتي التي عجبت من هذا وسألتني من أين لك هذا ، قلت : من الكراريس التي قدمتها لك ( 7 ) .
الطارق : حسنا .. أحببنا أن تخبرنا عن الأدباء والعلماء الذين أخذت منهم العلم ؟!
الجاحظ : نعم .. أخذت العلم من القاضي أبي يوسف والسري بن عبدويه والحجاج بن محمد وحماد بن سلمة البري وصالح بن جناح اللخمي ويزيد بن هارون وعبد الله بن عون وشعبة بن الحجاج وحماد ابن زيد بن درهم الأزدي ، وسيبويه وعمرو بن كركرة والنضر بن شميل وقطرب والأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأخفش الأوسط وأبي اسحاق النظام وثمامة بن أشرس .. وكان هذين الأخيرين هم أحد أهم أساتذتي وشيوخي ( ب ) ...
كما أخذت عن الأعراب الفصحاء كأبي المهدي وأبي خيرة ويزيد بن كثوة وأبي الربيع الغنوي وأبي المنتجع بن بنهان وعبيد الكلابي وغيرهم ( 8 )
الطارق : وقد عرفت في شبابك وحياتك بإقبالك على الكتب حتى كنت تبيت في دكاكين الوراقين للقراءة والنظر ، وشهد أحد أصدقائك بحبك للكتب ؟!
الجاحظ : نعم .. حتى سخر مني أصدقاء لي عندما رأوني أشتري أوراق مقطعة فقلت لهم : ( أنتم حمقى والله أن فيها ما لا يوجد إلا فيها ولكنكم جهال ، لا تعرفون النفيس من الخسيس ) ( 9 )
فقد كنت والله مولعا بالقراءة حتى أنه لم يقع بيدي كتاب إلى استوفيته بالقراءة كائنا من كان ( 10 ) .
الطارق : وكان أكثر من أثر فيك شيوخ المعتزلة ؟!
الجاحظ : نعم فقد شغفت بالاعتزال وقد لزمت في تلك الفترة أبو هذيل العلاف وحلقة مشاهير الاعتزال في ذلك العصر ومن أهمهم النظام الذي كان له دورا كبير في حياتي ( 11 ) .
الطارق : أحببنا أن تحدثنا عن بداية تأليفك ، فقد قيل أنك لاقيت الكثير ممن الإهمال في كتاباتك الأولى مع العلم أن زملائك وأساتذتك من المعتزلة يعلمون بفضلك ؟!
الجاحظ : نعم والله .. حتى كنت ألف الكتب وأنسبها لكتاب مشاهير كعبد الله بن المقفع و والخليل والعتابي وسلم صاحب بيت الحكمة فيروج الكتاب ويأخذ مني ( 12 )
الطارق : وقد كان بروز اسمك بعد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ وكان لأساتذتك الفضل الأول في ذلك ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ بعد خلع الأمين .. وفي سنة 204 هـ استقر المأمون في بغداد بعد رجوعه من مرو .. وشًغل بعدها بعقيدة الإمامة ومستحقيها فعرض عليه شيخ المعتزلة ثمامة بن الأشرس ( ج ) أن ألف كتابا في هذا الموضوع فأمرني بذلك ، فألفت كتابي في ( الإمامة ) فأعجب به المأمون وكان ذلك فاتحة عهد جديد لي ،
وتحولت من بعدها من البصرة إلى بغداد وأصبح لي مرتبا منذ ذلك التاريخ ( 12 )
الطارق : وقد عينت لفترة رئيس لديوان الرسائل نيابة عن إبراهيم بن عباس الصولي قد كان هذا المنصب من المناصب المهمة في الدولة .. إلا أنك لم تبقى إلا ثلاثة أيام فقط ؟! ( د )
الجاحظ : نعم .. فلم أقبل هذا المنصب إلى على كره مني ، ولم أبقى فيه إلا مدة ثلاثة أيام .
فقد أبيت أن تستعبد نفسي الحرة حياة الوظيفة وقيودها ، كما كنت كارها للكتاب ودسائسهم ولم أرضى أن أتعامل معهم ( 13 )
وكذلك لرتابة العمل الإداري الذي لا ينسجم مع نفسيتي ، وحسد الحاسدين ومكائد وجو القصور المشحون بالتنافس والبغضاء ( 14 ) كل ذلك جعلني أفر من هذا المنصب .
الطارق : وكان من حسن حظ الكتاب في ذلك العصر أنك لم تبقى في ذلك المنصب أو كما قال سهل بن هارون : ( إن ثبت الجاحظ هذا الديوان ، أفل نجم الكتاب ) ( 14 ) .
حسنا .. وقد تحسنت حالتك المادية في تلك الفترة ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد اغتنيت بما ألفت .. فقد أقتنيت ضيعة تنسب لي ومالا وبيتا وأقتنيت العبيد من من سبق أن خدم الملوك ورحلت إلى دمشق أنطاكيا ( 15 )
هذا غير رحلاتي في صحاري جزيرة العرب والروم والشام والجزيرة وغير ذلك التي قمت بها سوء من قبل أو بعد ( 16 )
الهوامش :
( أ ) لدى الجاحظ صديق اسمه مويس بن عمران كان ذو ثراء وجاه يذكره في كتبه لا أدري أن كان هذا هو وقد حدث تصحيف في هذا الاسم من مؤلف كتاب أبو عثمان الجاحظ أم هو أخ له أم غيره .
( ب ) هذا ما يذكره صاحب كتاب أبو عثمان الجاحظ ,, ويقول ياقوت الحموي أنه ( سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري أخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه ، وأخذ الكلام عن النظام ، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد [ معجم الأدباء : ج16 / ص74 ] وكان الفضل الأكبر في علمه لأبو اسحاق النظام معلمه وأستاذه وأحد شيوخ المعتزلة في ذلك الوقت ، كما كان لثمامة الفضل الكبير في تقريبه من الخلافة في عهد المأمون وفي إبراز شخصيته .
( ج ) كان لثمامة دور كبير في عصر المأمون يقول محي الدين اللاذقيني : ( ويجمع مؤرخو ذلك العصر أن ثمامة كان أكثر من مستشار للمأمون ، فقد صار منذ أن اعتنق الخليفة الاعتزال ، وجعله مذهب الدولة الرسمي ، يختار للمأمون بطانته ، وينظم مجالس النشاط العقلي التي ازدهرت في عهد ذلك الخليفة المتنور ، ويرشح كبار موظفي الدولة بما فيهم الوزراء ، ومن ذلك الموقع أدخل معظم المعتزلة إلى الدواوين ، ورشح الجاحظ لمنصب رئيس ديان الكتاب ) [ طواحين الكلام : جريدة الشرق الأوسط / العدد 6631 / بتاريخ 23/1/1997 م ] .
( د ) تذكر المراجع الأدبية أن أبو العيناء زار الجاحظ و في ديوان الرسائل مع العلم أن الجاحظ ولي في هذا المنصب في عصر المأمون في ما بين سنة 204 هـ وسنة 215 هـ إذا صحت مقولة سهل بن هارون المتوفي سنة 215 هـ ، وقد ولد أبو العيناء سنة 191 هـ أي أنه حتى تلك الفترة كان يبلغ الرابعة العشرين من عمره ، وقد ذكرت جميع المراجع التي ذكرتها في حواري مع أبو العيناء أن أبو العيناء لم يخرج من البصرة إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره وأنه لم يشتهر إلا في عصر الواثق ، فلا أدري هل رواية زيارة أبو العيناء للجاحظ رواية مختلقة وغير صحيحة ، أم أن أبو العيناء كان معروف في تلك الفترة وحسبما ذكره صاحب كتاب ( قول على قول ) الذي يدعي أن أبو العيناء كان يحضر مجلس المأمون وأنه أعمى في ذلك الزمن [ قول على قول : ج1 / ص387 ] ، أم أن الجاحظ قد عين على ديوان الرسائل في عصر الواثق أو المتوكل .
الذي أرجحه أن تلك الرواية كانت مختلقة فقد كان أبو العيناء صغير السن في ذلك الوقت كما أن معرفة الجاحظ بأبو العيناء لم تتم إلى في عصر الواثق ولم يشتهر أبو العيناء إلا في زمن الواثق ولم يخرج من البصرة إلا بعد الأربعين من عمره أي بعد سنة 231 هـ ( قد توفي المأمون سنة 218 هـ ) وقد أصاب العمى بعد ذلك كما تذكر جميع المصادر التي تحدثت عنه .
كما لم تذكر جميع المصادر التي تحدثت عن الجاحظ أنه ولي مرة أخرى في ديوان الرسائل إلا مرة واحدة ولمدة ثلاثة أيام في عصر المأمون .
المصادر :
( 1 ) الأعلام / الزركلي (– دار العلم للملايين – الطبعة الحادي عشر –1995 ) : ج5 / ص74
( 2 ) أبو عثمان الجاحظ / الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي (–دار الكتاب اللبناني – بيروت –1982 ) : ص 53 ، 54 ،55
( 3 ) معجم الأدباء / ياقوت الحموي ( دار الفكر – الطبعة الثالثة –1400/ 1980) : ج16 / 83
( 4 ) معجم الأدباء : ج16 /ص74 .
( 5 ) ( سلسلة أعلام الفكر العربي ) الجاحظ دائرة معارف عصره / الدكتور فوزي عطوي ( دار الفكر العربي –بيروت –الطبعة الثانية –1998 ) : ص12
( 6 ) وفيات الأعيان / ابن خلكان ( تحقيق إحسان عباس – دار الفكر –بيروت ) : ج3 / ص 473
( 7 ) أبو عثمان الجاحظ : ص 56 ، 57
( 8 ) أبو عثمان الجاحظ : ص58 ، 59.
( 9 ) أبو عثمان الجاحظ : ص 60 ،61
( 10 ) ضحى الإسلام : ج1 / ص387
( 11 ) تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) / شوقي ضيف ( دار المعارف – الطبعة الثانية – مصر ) : ص 589
( 12 ) تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) : ص590
( 13 ) أبو عثمان الجاحظ : ص68
( 14 ) الجاحظ دائرة معارف عصره : ص14
( 15 ) ضحى الإسلام / أحمد أمين ( دار الكتاب العربي – الطبعة العاشرة ) : ج1 /ص387 ، 388
( 16 ) أبو عثمان الجاحظ : ص64
لو يمسخ الخنزير ثانيا ** ما كان إلا دون قبح الجاحظ
رجل ينوب عن الجحيم بنفسه ** وهو القذى في كل طرف لاحظ
انطبقت صورة هذا الشعر على محاوري الذي كان جاحظ العينين بارزهما
مشوه الوجه ، يميل وجه إلى السواد .
ورغم هذا فقد أعجب به عظماء عصرة وأجلوه رغم قبحه حتى قال أحد الشعراء في رثاءه :
ولقد رأيت الظرف دهـ ** ـراً ما حواه اللافظ
حتى أقـــــام طريقه ** عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به ** وهو الرئيس الفائظ
سلمت على شيخنا وشيخ الأدب العربي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وأعلنت فخري واعتزازي قبطتي لمحاورة هذا العلم الشامخ في تاريخ الأدب العرب والعالمي ، فشكرني على هذا الحوار :
الطارق : بداية الأمر .. أحببنا شيخنا الفاضل أن تعرفنا بنفسك اختصارا ؟!
أبو عثمان الجاحظ : حسنا .. أنا أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الكناني الليثي ، وعرفت اختصار بذلك الاسم الشهير الجاحظ .
كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ( 1 )
الطارق : حسنا .. شيخنا الفاضل .. أحببنا أن نتباحث قضية أثارت جدل في نسبك فقد قيل أنك مولى وقيل أنك عربي الأصل ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد قيل أن جدي فزارة كان مولى لأبي القلمس عمرو بن قلع بن عباد بن القلمس الكناني الفقمي .
و أن جدي فزارة كان أسود اللون وكان جمالا لعمرو بن قلع هذا ، أي أن أصولي ترجع إلى الجنس الإفريقي الذي اختلط بالعرب بعد الإسلام ( 2 )
الطارق : إلا أن البعض يدعي أنك من أصل عربي ويدعي أن الرواية التي تذكر أنك ذو أصل أفريقي مختلقة ومنحولة إذ لم ترد من مصدر موثوق به ، كما أنه لم يعيرك أحد من الشعراء بالرق ولا بإنك مولى لأحد .
كما أنك في الكثير من كتبك ورسائلك صرحت بإنك من العرب ( 2 ) ؟!
( وهز الجاحظ رأسه مبتسما ) وأكملت أنا حديثي :
الطارق : بل وما يدل على أنك عربي قول الجماز فيك :
قال عمرو مفاخراً ** نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لربـ ** ـك أبليت ذا السب ( 3 )
ورغم هذا فقد ألفت أيضا رسالة في مدح السود ( فخر السودان على البيضان ) وقد تدل هذه الرسالة على أنك ليس بالعربي ؟!
الجاحظ : وألفت رسالة في مناقب الترك ، فهل تعني هذه أني تركي !!
الطارق : حسنا .. حسنا .. أحبنا أن تخبرنا عن سنة مولدك ؟!
الجاحظ : حسنا .. ولدت بالبصرة سنة 150 هـ ، فقد ولدت قبل أبي نواس بسنة ، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وولد أبو نواس في آخرها ( 4 ).
الطارق : ويقال أنك ولدت سنة 163 هـ ( 1 ) ويقال أيضاً أنك ولدت سنة 159 هـ ( 5 ) وهو ما يأخذ به الكتاب المعاصرون وربما لقصة تروى عند مرضك عندما أصابك الفالج ( الشلل ) عندما وصفت حالك في تلك الفترة وقلت ( وأشد ما علي ست وتسعون سنة ) ( 6 ) فجزموا أن هذه القصة حدثت في أخر سنة من حياتك أي سنة 255 هـ .
الجاحظ : لقد قلت لك من قبل أني ولدت سنة 150 هـ .. لا أدري لما لست مقتنع بأني ولدت في تلك السنة ... لربما لا تصدق أني قد بلغت من العمر 105 سنة !!
الطارق : حسنا .. ليس يهمنا أن كنت قد بلغت كل هذا العمر أو أقل .. أحببنا أن تحدثنا عن نشأتك ؟!
الجاحظ : ولدت في البصرة كما قلت عن أبوين فقيرين .. وسريعا ما توفي والدي وأنا صغير .. وربتني والدتي بعد ذلك .. ودخلت في صباي الكتاب لأتعلم القراءة والكتابة وأخذت أتردد على حلقات العلم في مسجد البصرة الجامع وأذهب إلى المربد للعلم وتلقف الفصاحة .. كما كنت أبيع الخبز والسمك عند نهر سيحان بالبصرة ..( 7 )
الطارق : وقد كانت والدتك تغضب من انصرافك للعلم ، وتركك العمل ؟!
الجاحظ : نعم .. إلى درجة أنها قدمت إلي الكراريس عندما طلبت منها الطعام ، فقلت : ما هذا ، فقالت : هذا الذي تجيء به .
فخرجت مغموما وجلست في جامع البصرة فرآني يونس بن عمران ( أ ). مغموما فسألني ما شأني فأخبرته بخبري فأعطاني خمسين دينار وعدت إلى والدتي التي عجبت من هذا وسألتني من أين لك هذا ، قلت : من الكراريس التي قدمتها لك ( 7 ) .
الطارق : حسنا .. أحببنا أن تخبرنا عن الأدباء والعلماء الذين أخذت منهم العلم ؟!
الجاحظ : نعم .. أخذت العلم من القاضي أبي يوسف والسري بن عبدويه والحجاج بن محمد وحماد بن سلمة البري وصالح بن جناح اللخمي ويزيد بن هارون وعبد الله بن عون وشعبة بن الحجاج وحماد ابن زيد بن درهم الأزدي ، وسيبويه وعمرو بن كركرة والنضر بن شميل وقطرب والأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأخفش الأوسط وأبي اسحاق النظام وثمامة بن أشرس .. وكان هذين الأخيرين هم أحد أهم أساتذتي وشيوخي ( ب ) ...
كما أخذت عن الأعراب الفصحاء كأبي المهدي وأبي خيرة ويزيد بن كثوة وأبي الربيع الغنوي وأبي المنتجع بن بنهان وعبيد الكلابي وغيرهم ( 8 )
الطارق : وقد عرفت في شبابك وحياتك بإقبالك على الكتب حتى كنت تبيت في دكاكين الوراقين للقراءة والنظر ، وشهد أحد أصدقائك بحبك للكتب ؟!
الجاحظ : نعم .. حتى سخر مني أصدقاء لي عندما رأوني أشتري أوراق مقطعة فقلت لهم : ( أنتم حمقى والله أن فيها ما لا يوجد إلا فيها ولكنكم جهال ، لا تعرفون النفيس من الخسيس ) ( 9 )
فقد كنت والله مولعا بالقراءة حتى أنه لم يقع بيدي كتاب إلى استوفيته بالقراءة كائنا من كان ( 10 ) .
الطارق : وكان أكثر من أثر فيك شيوخ المعتزلة ؟!
الجاحظ : نعم فقد شغفت بالاعتزال وقد لزمت في تلك الفترة أبو هذيل العلاف وحلقة مشاهير الاعتزال في ذلك العصر ومن أهمهم النظام الذي كان له دورا كبير في حياتي ( 11 ) .
الطارق : أحببنا أن تحدثنا عن بداية تأليفك ، فقد قيل أنك لاقيت الكثير ممن الإهمال في كتاباتك الأولى مع العلم أن زملائك وأساتذتك من المعتزلة يعلمون بفضلك ؟!
الجاحظ : نعم والله .. حتى كنت ألف الكتب وأنسبها لكتاب مشاهير كعبد الله بن المقفع و والخليل والعتابي وسلم صاحب بيت الحكمة فيروج الكتاب ويأخذ مني ( 12 )
الطارق : وقد كان بروز اسمك بعد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ وكان لأساتذتك الفضل الأول في ذلك ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد تولى المأمون الخلافة سنة 198 هـ بعد خلع الأمين .. وفي سنة 204 هـ استقر المأمون في بغداد بعد رجوعه من مرو .. وشًغل بعدها بعقيدة الإمامة ومستحقيها فعرض عليه شيخ المعتزلة ثمامة بن الأشرس ( ج ) أن ألف كتابا في هذا الموضوع فأمرني بذلك ، فألفت كتابي في ( الإمامة ) فأعجب به المأمون وكان ذلك فاتحة عهد جديد لي ،
وتحولت من بعدها من البصرة إلى بغداد وأصبح لي مرتبا منذ ذلك التاريخ ( 12 )
الطارق : وقد عينت لفترة رئيس لديوان الرسائل نيابة عن إبراهيم بن عباس الصولي قد كان هذا المنصب من المناصب المهمة في الدولة .. إلا أنك لم تبقى إلا ثلاثة أيام فقط ؟! ( د )
الجاحظ : نعم .. فلم أقبل هذا المنصب إلى على كره مني ، ولم أبقى فيه إلا مدة ثلاثة أيام .
فقد أبيت أن تستعبد نفسي الحرة حياة الوظيفة وقيودها ، كما كنت كارها للكتاب ودسائسهم ولم أرضى أن أتعامل معهم ( 13 )
وكذلك لرتابة العمل الإداري الذي لا ينسجم مع نفسيتي ، وحسد الحاسدين ومكائد وجو القصور المشحون بالتنافس والبغضاء ( 14 ) كل ذلك جعلني أفر من هذا المنصب .
الطارق : وكان من حسن حظ الكتاب في ذلك العصر أنك لم تبقى في ذلك المنصب أو كما قال سهل بن هارون : ( إن ثبت الجاحظ هذا الديوان ، أفل نجم الكتاب ) ( 14 ) .
حسنا .. وقد تحسنت حالتك المادية في تلك الفترة ؟!
الجاحظ : نعم .. فقد اغتنيت بما ألفت .. فقد أقتنيت ضيعة تنسب لي ومالا وبيتا وأقتنيت العبيد من من سبق أن خدم الملوك ورحلت إلى دمشق أنطاكيا ( 15 )
هذا غير رحلاتي في صحاري جزيرة العرب والروم والشام والجزيرة وغير ذلك التي قمت بها سوء من قبل أو بعد ( 16 )
الهوامش :
( أ ) لدى الجاحظ صديق اسمه مويس بن عمران كان ذو ثراء وجاه يذكره في كتبه لا أدري أن كان هذا هو وقد حدث تصحيف في هذا الاسم من مؤلف كتاب أبو عثمان الجاحظ أم هو أخ له أم غيره .
( ب ) هذا ما يذكره صاحب كتاب أبو عثمان الجاحظ ,, ويقول ياقوت الحموي أنه ( سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري أخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه ، وأخذ الكلام عن النظام ، وتلقف الفصاحة من العرب شفاهاً بالمربد [ معجم الأدباء : ج16 / ص74 ] وكان الفضل الأكبر في علمه لأبو اسحاق النظام معلمه وأستاذه وأحد شيوخ المعتزلة في ذلك الوقت ، كما كان لثمامة الفضل الكبير في تقريبه من الخلافة في عهد المأمون وفي إبراز شخصيته .
( ج ) كان لثمامة دور كبير في عصر المأمون يقول محي الدين اللاذقيني : ( ويجمع مؤرخو ذلك العصر أن ثمامة كان أكثر من مستشار للمأمون ، فقد صار منذ أن اعتنق الخليفة الاعتزال ، وجعله مذهب الدولة الرسمي ، يختار للمأمون بطانته ، وينظم مجالس النشاط العقلي التي ازدهرت في عهد ذلك الخليفة المتنور ، ويرشح كبار موظفي الدولة بما فيهم الوزراء ، ومن ذلك الموقع أدخل معظم المعتزلة إلى الدواوين ، ورشح الجاحظ لمنصب رئيس ديان الكتاب ) [ طواحين الكلام : جريدة الشرق الأوسط / العدد 6631 / بتاريخ 23/1/1997 م ] .
( د ) تذكر المراجع الأدبية أن أبو العيناء زار الجاحظ و في ديوان الرسائل مع العلم أن الجاحظ ولي في هذا المنصب في عصر المأمون في ما بين سنة 204 هـ وسنة 215 هـ إذا صحت مقولة سهل بن هارون المتوفي سنة 215 هـ ، وقد ولد أبو العيناء سنة 191 هـ أي أنه حتى تلك الفترة كان يبلغ الرابعة العشرين من عمره ، وقد ذكرت جميع المراجع التي ذكرتها في حواري مع أبو العيناء أن أبو العيناء لم يخرج من البصرة إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره وأنه لم يشتهر إلا في عصر الواثق ، فلا أدري هل رواية زيارة أبو العيناء للجاحظ رواية مختلقة وغير صحيحة ، أم أن أبو العيناء كان معروف في تلك الفترة وحسبما ذكره صاحب كتاب ( قول على قول ) الذي يدعي أن أبو العيناء كان يحضر مجلس المأمون وأنه أعمى في ذلك الزمن [ قول على قول : ج1 / ص387 ] ، أم أن الجاحظ قد عين على ديوان الرسائل في عصر الواثق أو المتوكل .
الذي أرجحه أن تلك الرواية كانت مختلقة فقد كان أبو العيناء صغير السن في ذلك الوقت كما أن معرفة الجاحظ بأبو العيناء لم تتم إلى في عصر الواثق ولم يشتهر أبو العيناء إلا في زمن الواثق ولم يخرج من البصرة إلا بعد الأربعين من عمره أي بعد سنة 231 هـ ( قد توفي المأمون سنة 218 هـ ) وقد أصاب العمى بعد ذلك كما تذكر جميع المصادر التي تحدثت عنه .
كما لم تذكر جميع المصادر التي تحدثت عن الجاحظ أنه ولي مرة أخرى في ديوان الرسائل إلا مرة واحدة ولمدة ثلاثة أيام في عصر المأمون .
المصادر :
( 1 ) الأعلام / الزركلي (– دار العلم للملايين – الطبعة الحادي عشر –1995 ) : ج5 / ص74
( 2 ) أبو عثمان الجاحظ / الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي (–دار الكتاب اللبناني – بيروت –1982 ) : ص 53 ، 54 ،55
( 3 ) معجم الأدباء / ياقوت الحموي ( دار الفكر – الطبعة الثالثة –1400/ 1980) : ج16 / 83
( 4 ) معجم الأدباء : ج16 /ص74 .
( 5 ) ( سلسلة أعلام الفكر العربي ) الجاحظ دائرة معارف عصره / الدكتور فوزي عطوي ( دار الفكر العربي –بيروت –الطبعة الثانية –1998 ) : ص12
( 6 ) وفيات الأعيان / ابن خلكان ( تحقيق إحسان عباس – دار الفكر –بيروت ) : ج3 / ص 473
( 7 ) أبو عثمان الجاحظ : ص 56 ، 57
( 8 ) أبو عثمان الجاحظ : ص58 ، 59.
( 9 ) أبو عثمان الجاحظ : ص 60 ،61
( 10 ) ضحى الإسلام : ج1 / ص387
( 11 ) تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) / شوقي ضيف ( دار المعارف – الطبعة الثانية – مصر ) : ص 589
( 12 ) تاريخ الأدب العربي ( العصر العباسي الثاني ) : ص590
( 13 ) أبو عثمان الجاحظ : ص68
( 14 ) الجاحظ دائرة معارف عصره : ص14
( 15 ) ضحى الإسلام / أحمد أمين ( دار الكتاب العربي – الطبعة العاشرة ) : ج1 /ص387 ، 388
( 16 ) أبو عثمان الجاحظ : ص64