PDA

View Full Version : الحركة السنوسية في ليبيا ( الفصل الأول من الجزء الأول )


الأسد الخجول
28-10-2007, 11:36 AM
الفصل الأول
(الإمام محمد بن علي السنوسي)

المبحث الأول:
اسمه ونسبه وشيوخه ورحلاته في طلب العلم


أولاً : اسمه ونسبه:

هو الشيخ محمد بن علي بن السنوسي بن العربي بن محمد بن عبدالقادر بن شهيدة بن حم بن يوسف بن عبدالله بن خطاب بن علي بن يحيى بن راشد بن أحمد المرابط ابن منداس بن عبدالقوي بن عبدالرحمن بن يوسف بن زيان بن زين العابدين بن يوسف بن حسن بن ادريس بن سعيد بن يعقوب بن داود بن حمزة بن علي بن عمران بن إدريس بن إدريس بن عبدالله الكامل ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن علي (1) بن أبي طالب الهاشمي القرشي.
ولد سنة 1202هـ صبيحة يوم الاثنين الموافق الثاني عشر من ربيع الأول عند طلوع الفجر ولذلك سماه والده محمداً تيمناً باسم النبي وكانت ولادته بضاحية ( مَيْثاً ) الواقعة ضفة وادي شِلْف بمنطقة الواسطة التابعة لبلدة مستغانم في الجزائر (2) وتوفي والده بعد عامين من ولادته، وتولت عمته فاطمة تربيته وتنشئته تنشئة صالحة وكانت من فضيلات أهل زمانها، ومتبحرة في العلوم ومنقطعة للتدريس والوعظ يحضر دروسها ومواعيظها الرجال (3) واهتمت السيدة فاطمة بابن أخيها الذي أظهر حباً عظيماً لتحصيل العلوم، فأخذ يطلب العلوم من شيوخ مستغانم، وغيرها من البلاد المجاورة لها مع تعهد عمته له ومن أشهر شيوخه في تلك المرحلة، فمنهم من أخذ عنهم القرآن الكريم مع القراءات السبع، محمد بن قعمش الطهراوي زوج عمته، وابنه عبدالقادر وكانا عالمين جليلين صالحين وابن عمه الشيخ محمد السنوسي الذي تولاه بعد وفاة عمته في الطاعون عام 1209هـ وعمره لم يتجاوز السابعة واتم على ابن عمه حفظ القرآن الكريم برواياته السبع مع علم رسم الخط للمصحف والضبط وقرأ عليه الرسالات الآتية، مورد الظمآن، المصباح، العقيلية، الندى، الجزرية، الهداية المرضية في القراءة المكية، حرز الأماني للشاطبي، وغيرها مما هو من وظائف قارئ القرآن (4)وبعد أن أتم مايلزمه من لوازم حفظ القرآن واتقانه شرع ابن عمه الشيخ محمد السنوسي في تعليمه العلوم العربية ثم الدينية بالتدرج وتربيته على العمل بما تعلم وكان يزوده بتراجم العلماء والقادة والفقهاء وتوفي ابن عمه عام 1219هـ فجلس محمد بن علي على شيوخ من مستغانم وهم: محي الدين بن شلهبة، ومحمد بن ابي زوينة، وعبدالقادر بن عمور، ومحمد القندوز، ومحمد بن عبدالله، وأحمد الطبولي الطرابلسي، وكلهم من جهابذة العلماء في زمانهم ومكث يطلب العلم في مستغانم سنتين كاملتين (5) .
وفي أوائل 1221هـ خرج من مستغانم إلى بلدة مازونه ومكث بها سنة واحدة وتتلمذ على مجموعة من المشائخ هم، محمد بن علي بن أبي طالب، أبو رأس المعسكري، وأبو المهل أبو زوينه (6) .
وبعد ذلك رحل إلى مدينة تلمسان وأقام بها مايقارب من السنة وتتلمذ على كبار شيوخها (7) .

ثانياً: نبوغ مبكر :

كان الشيخ محمد بن علي السنوسي في صغره يميل إلى الإنزواء والإنفراد ويمضي وقتاً طويلاً في التفكير العميق، ويتألم من حال الأمة وما وصلت إليه من الضعف والهوان والضياع وكان يبحث عن عوامل النهوض، وأسباب توحيد صفوف الأمة، واحياء الملة الإسلامية، وحدث ذات مرة أن وجده بعض العلماء جالساً فوق كثيب من الرمال تظهر على صفحات وجهه المشرق علامات التفكير العميق، فلما سألوه عن السبب في ذلك، أجاب بأنه ( يفكر في حال العالم الإسلامي الذي لايعدو عن كونه قطيعاً من الغنم لاراعي له على الرغم من وجود سلاطينه وأمرائه ومشايخ طرقه وعلمائه، فمع أن هناك عدداً كبيراً من المرشدين وعلماء الدين الموجودين في كل مكان، فإن العالم الإسلامي لايزال مفتقراً أشد الافتقار إلى مرشد حقيقي يكون هدفه سوق العالم الإسلامي أجمع إلى غاية واحدة ونحو غرض واحد والسبب في هذا إنعدام الغيرة الدينية لدى العلماء والشيوخ وإنصرافهم إلى الخلافات القائمة بينهم قد فرقتهم شيعاً وجماعات فأصبحوا لايعنون بنشر العلم والمعرفة ولايعملون بأوامر الدين الحنيف، وهو دين توحيد أساسه الاتحاد وجمع الكلمة. زد على هذا أن على هؤلاء العلماء والشيوخ واجب عظيم في حق الملة الإسلامية، إذ أن الشعوب المجاورة في السودان والصحراء من افريقية الغربية - لاتزال تعبد الأوثان، ومع هذا فانهم بدلاً من وعظ هذه الشعوب الوثنية وإرشادهم إلى الدين القويم، مازالوا يفضلون القبوع في كل مسجد من مساجد المعمورة غير عاملين بعلمهم لاهم لهم إلا راحة أجسامهم، حريصين على لذاتهم، غير قائمين بواجبات مراكزهم، لاضمائر لهم تؤنبهم على إهمالهم إرشاد هؤلاء المساكين، الوثنيين (8) .ومع ذلك فقد بلغ السيد من القوافل الواصلة إلى بلده مستغانم أن الإسلام مغلوب على أمره في كل محل، وأن المقاطعات والخطط المعمورة تذهب من أيدي المسلمين في كل وقت وبسرعة البرق، فالإسلام في حالة التدهور المخيف). تم ختم كلامه بقوله: ( هذا ما أفكر فيه! فلما سألوه وماذا يجب على المسلمين عمله لتلافي ماذكرت، أجاب: سأجتهد، سأجتهد) (9) .
لقد كان تفكيره في حال الأمة مبكراً، واجتهد في البحث عن العلل والأسباب التي أدت إلى التدهور والضعف المخيف في كيان الأمة وذكر أن من أسباب هذا الضياع فقدان القيادة الراشدة، وغياب العلماء الربانيين، وانعدام الغيرة الدينية، والإنشغال بالخلافات التي فرقتهم شيعاً وجماعات، والتفريط في حق دعوة الناس إلى الإسلام، وضياع الأقاليم الإسلامية، ولذلك اهتم بالبحث عن عوامل النهوض فرأى أن بدايتها في الإيمان العميق الذي هو أساس كل خير وسبب لحصول البركات ونزول الأرزاق قال تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ... }
( سورة الأعراف، الآية: 9 ) .
إن الإيمان هو القضية الأولى والأساسية لهذه الأمة، فإذا تخلف المسلمون عن غيرهم في وسائل الحياة الحرة الكريمة فمرد ذلك إلى انحرافهم عن فهم الإسلام فهماً سليماً، وعن ضعف إيمانهم بقيمه ومثله ولاسبيل إلى إصلاح حالهم ومآلهم إلا بالإيمان على الوجه الذي بينه الله في كتابه، ورسوله في سنته. وهو أن يكون طاقة دافعة إلى العمل، وقوة محركة للبناء، وحافزاً طبيعياً للتفوق (10) وقد وصل إلى حقيقة مهمة ألا وهي أهمية العلم في نهوض الأفراد والجماعات والأمم، لأن العلم ظهير الإيمان، وأساس العمل الصالح، ودليل العبادة (11).
فبعد أن قطع المرحلة الأولى من طلب العلم في بلده الجزائر اشتاقت نفسه للمزيد:

قال أبو اسحاق الألبيري - رحمه الله - :
فلو قد ذقت من حلواه طعماً
لآثرت التعلم واجتهدت
ولم يشغلك عن هوى مطاع
ولادنيا بزخرفها فتنا
ولا ألهاك عنه أنيق روض
ولاخدر بزينتها كلفتا
فقوت الروح أرواح المعاني
وليس بأن طعمت ولاشربتا
ثالثاً: الرحلة إلى فاس :
وكانت المرحلة الثانية في الطلب، حيث قصد مدينة فاس في المغرب الأقصى ومكث فيها سبع سنوات تقريباً، فأخذ العلم بالرواية عن أفاضل علماء فاس مثل، حمودة بن حاج، حمدون بن عبدالرحمن، والطيب الكيراني، محمد بن عامر المعواني، وأبي بكر الأدريسي، وادريس بن زيان العراقي، ومحمد بن منصور، ومحمد بن عمر الزروالي، ومحمد البازعي، والعربي بن أحمد الدرقاوي، وكان العربي الدرقاوي من شيوخ الطريقة الشاذلية، وتبحر ابن السنوسي في معرفة الطرق الصوفية إلى جانب التفقه في علوم الدين، وتحصل على إجازات من علماء راسخين وأصبح مدرساً بالجامع الكبير بمدينة فاس ونال المشيخة الكبرى بها (12) وأقبل الناس عليه لما رأو من صلاحه وتقواه وفهمه الدقيق لعلوم الشريعة، وروحه الفياضة، وعقله المتنور، وفكره الناضج، وخشيت حكومة السلطان سليمان من نفوذه وبدأت العراقيل، ووجد أن لافائدة ترجى من بقائه بفاس وقرر الارتحال عنها بعد أن تبلورت أصول الدعوة في ذهنه وعزم على محاربة الأوهام والخزعبلات التي أبعدت الاسلام عن حقيقته، وحجزته بينه وبين أتباعه من أن يحقق لهم ماحققه في عهده الأول من رفعة وتلك هي الوسيلة الوحيدة التي تمنح المسلمين القوة، وتمكن لهم من دفع عدوهم عنهم، كما أن تجربته مع السلطان أكسبته خبرة في التعامل مع الحكام في المستقبل، ولقد لاحظ في فاس تباعد الأمة عن دينها وعقيدتها وانحرافها عن كتاب ربها وسنة نبيها وكيف بدأ الغزو الأوروبي يؤثر على المدن المغربية؟ وكيف دخلت البلاد في الصراعات والخلافات الداخلية؟ ولعل الذي جعله يبقي في المغرب الأقصى مدة سبع سنين متتالية جامع القرويين الذي وجد فيه جماعة من العلماء الذين ذكرت بعضهم، وكان يتشوق الى لقائهم(13) ولقد تعمق أحساسه بالخطر الأوروبي وشعر بالاخطار التي كانت تتهدد هذه البلاد من الدول الصليبية، ولقد سمع بعض الناس يتحدثون عن النكبات التي حاقت بها من هذه الدول منذ قرنين من الزمن، حين احتل الاسبان أجزاء كثيرة منها، كالمرسى الكبير، ووهران ، وعنابة وتنس ومدينة الجزائر، ومستغانم (مسقط رأسه) ومازالت أعمالهم الشنيعة، وأفعالهم القبيحة يرويها جيل عن جيل من القتل الذريع، والسبي الشنيع، وإهدار كل حرمة، وتحويل المساجد الى كنائس كانت تلك الأمور محل تأمل وتفكر من قبل ابن السنوسي (14) .
لقد كانت تجربة فاس ثرية بالنسبة لابن السنوسي وقد نقل لنا شكيب ارسلان عن أحمد الشريف السنوسي مادرسه جده في فاس والشيوخ الذين أخذ عنهم فقال : (ومنهم العلامة الهمام سيدي محمد بن الطاهر الفيلالي الشريف العلوي قرأت عليه مختصر السعد، وجمع الجوامع، السلم ، وجملة صالحة من مختصر الشيخ خليل ، وهو يروي عن الحافظ بن كيران والعلامة الزروالي وشيخهم العلامة ابن الشقرون باسانيدهم السابقة وغيرهم من أماثل علماء فاس. ومنهم العلامة المتقي المتفنن ابو المواهب سيد أبوبكر بن زياد الادريس حضرته في علوم كثيرة وقرأت عليه الفرائض والحساب والاربعين ومضاعفاتها والاسطرلابيين وصناعتها والعلوم الاربعة الرياضة والهندسة والهيئة والطبيعة والارثماطقيقي واصول قواعد الموسيقى والمساحة والتعديل والتقويم وعلم الاحكام والنسب والوقف والتكسير والجبر، والمقابلة وغيرها الخ....) (15) ولقد بقي ابن السنوسي مهتماً بهذه العلوم وقام بتدريسها لبعض طلابه ومريديه.
ويمكن للباحث أن يلاحظ عدة عوامل أثرت في شخصيته لما كان في الجزائر، وظهور خطوط واضحة بعد انتهاء تجربة المغرب الأقصى في فاس، أما العوامل التي أثرت في شخصيته لما كان بالجزائر منها:

1- تأثر ابن السنوسي مما كان يراه من ظلم الولاة العثمانيين، ومن الثورات التي كانت تقوم بها القبائل ضدهم.

2- لمس أطماع الدولة الأوربية في بلاده.

3- ولادته في بيت شريف مشهور بالعراقة والأصالة، وتأثره بتاريخ أجداده الأدارسة الذين حكموا المغرب، ولذلك صمم على السير في طريق أجداده ولقد برز اهتمامه بتاريخ أجداده في الكتاب الذي ألفه فيما بعد عنهم وسماه " الدرر السنية في أخبار السلالة الادريسية ".

4- نشأته في بيئة علمية حببت اليه العلم وفتحت عينيه على حقائقه الكثيرة، فأبوه وعدد من أجداده كانوا من الفقهاء والعلماء.

5- تأثره بعمته فاطمة التي أشرفت على تربيته في طفولته الأولى وقد بقى ابن السنوسي في كهولته يذكر بعض توجيهاتها له.


6- التقاليد والأعراف التي ورثتها أسرته ساعدت في صقل شخصيته، من ذلك اهتمام الأسرة بتربية علمية عملية فيها الدراسة وفيها الفروسية (16).

وأما الخطوط العريضة التي اتضحت في شخصيته بعد الإقامة بفاس فمنها:

1- الصوفية التي تعمق ابن السنوسي في دراستها وساعدته الظروف على ذلك حيث كانت فاس مركزاً نشطاً للطرق الصوفية، وميداناً خصباً لنشاطها، ومعلوم لدى الباحثين أن الشمال الافريقي على وجه خاص حافل بالحركات الصوفية ولدى أهلها اهتمام كبير بها. وكان من الطبيعي أن يتأثر ابن السنوسي بالنظام المغربي للصوفية. ولقد استمر اهتمامه بالصوفية حتى آخر حياته وبقى خطها واضحاً في شخصيته حتى انه نظم طريقة خاصة عرفت باسمه وكتب كتاباً سماه ( السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين ) تحدث فيه عن الطرق الصوفية عامة ووصف الطريق المثلى التي رضى بها والتي عرفت بنسبتها إليه (17) وكانت تجربته في الصوفية قد أعطته خبرة في التعامل معها فهو لم يقبل الصوفية على اطلاقها، ولم يرفضها بالجملة، بل قيدها بالكتاب والسنة وجعل طريقته مبنية على ( متابعة السنة في الأقوال والأحوال والاشتغال بالصلاة على النبي في عموم الأوقات ) (18) وقد اهتم بالصوفية اهتماماً كبيراً وظهرت هذه النزعة في منهجه التربوي الذي جعله لأتباعه والذي سنفصله في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.

2- اهتمامه بالدراسة الفقهية، فقد واصل ابن السنوسي في فاس دراسته الفقهية على المذهب المالكي ودرس كتب الفقه على يد شيوخه وقد ذكر في مقدمته للموطأ انه أخذه على طريقتي المغاربة والمشارقة، وذكر اثنين من شيوخه المغاربة وهما محمد بن عامر المعداني، ومحمد بن عبدالسلام الناصري ولقد ظهرت سعة اطلاعه في الفقه المالكي وفقه المذاهب الأخرى في تأليفه، ولقد بقى اهتمامه بالجانب الفقهي حتى آخر حياته، واستمر على المذهب المالكي مع اجتهاده فيه ومخالفته للمالكية في مجموعة من المسائل سنبينها في الصفحات القادمة ان شاء الله، ونلاحظ بأن اهتمام ابن السنوسي بالتصوف والفقه اكسبت حركته طابعاً متميزاً، فهو لم يغلُ في صوفيته ولم يغرق في شطحاتها كما انه لم يغل ولم يقف عند الحروف الفقهية ولم يتجمد في فهم احكامها بل زاوج بين دراستها، فأكسب صوفيته طابع السنة ولجمها بحدود الشرع وأعطى فقهه رونقاً وروحانية متألقة بعيدة عن الجمود.

3- اهتمامه بالحركات الإصلاحية، والوقوف في وجه الحكام ضد انحرافهم، والوقوف معهم لتحقيق الإصلاح وتنظيم تكتل شعبي يسند هذه المطالبة ويعززها، فقد زاد هذا الاهتمام بفاس عاصمة الدولة المغربية ومركزها المهم في نشر الوعي، وإشعاع العلم (19) يقول الدكتور محمد فؤاد شكري: ( ولما كان حبه لمنفعة المسلمين ورغبته في أن يرى العدل باسطاً جناحيه على أهل السلطنة وعلى شعوب الإسلام طراً، هي كل مايريد في حياته، فقد أكثر من الموعظة الحسنة في أثناء دروسه، وجرب مع الأهلين وأصحاب الشأن في فاس طرق الإرشاد بالحسنى تارة وبالشدة أخرى، ولكن دعوته إلى العدل والخير وجمع كل المسلمين وتطهير النفوس والابتعاد عن المنكر لم تثمر ثمرتها، بل إن كل ماحدث هو تنبه حكومة السلطان مولاي سليمان إلى هذه الدعوة وتلمس الخطر من جانبها، خشية أن تنقلب الدعوة الدينية إلى أخرى سياسية، فقد تعصف بالسلطنة .. وعلى ذلك فقد شددت الحكومة في مراقبة السيد، فوجد ألا فائدة ترجى من بقائه في فاس وقرر الارتحال ) (20) .

رابعاً: الأسباب التي جعلت ابن السنوسي يغادر فاس:

في عام 1235هـ (21) غادر ابن السنوسي فاس إلى الجزائر وقد ذكر المؤرخون عدة أسباب جعلته يغادر فاس منها:

1- أن فتناً كثيرة ثارت في فاس، حيث عمت الفوضى المدينة واضطر أهل الحل والعقد أن يقوموا بضبطها. ثم حدثت فتنة أخرى بسبب نزاع جرى بين القاضي والمفتي رفع أمره للسلطان سليمان فأخر المفتي عن الفتوى، فغضب للمفتي جماعة من المدرسين وطلبة العلم وتحزبوا على القاضي فكتبوا رسماً يتضمن الشهادة بجوره وجهله (22) ثم اضطرمت نار الفتنة حتى انتهت بخروج أهل فاس على السلطان سليمان، وعزموا على بيعة المولى ابراهيم بن يزيد زوج ابنة السلطان، فامتنع أولاً فهددوه قائلين " إن لم نبايعك بايعنا رجلاً من آل المولى ادريس " فخاف خروج الأمر من بيتهم فوافق (23) ، وكان من العلماء الذين حضروا البيعة محمد العربي الدرقاوي وهو أحد أساتذة ومشايخ ابن السنوسي، ولم يكن دور ابن السنوسي كبيراً في تلك الأحداث، وكانت الأحوال في فاس تدعو ابن السنوسي للمغادرة وخصوصاً بعد أن استطاع السلطان سليمان استعادتها ودخول شيخه الدرقاوي إلى السجن وتزعزع مركز العلماء والطلاب الذين وقفوا ضد السلطان سليمان ولاشك أن تلك الأحداث أكسبته خبرات كثيرة وأضافت إلى رصيده تجارب مهمة في حياته المستقبلية (24) .

2- ومن الأسباب التي شجعت ابن السنوسي على مغادرة فاس انه كان قد اخذ حظاً وافراً من الدراسة على علمائها وتاقت نفسه للأخذ على علماء جدد، ولذلك نراه في طريق عودته من فاس يدخل في أعماق صحراء الجزائر ليتعرف على أشهر الزوايا وليقابل مقدميها حتى بلغ عين مهدي (25) ومكث فيها مدة قصيرة ثم قصد " الأغوات " التي كانت تمتاز بموقعها في جنوب الجزائر بوصفها ملتقى القوافل الآتية من السودان الغربي. وفيها مكث بعض الوقت يلقى دروساً في الفقه والشريعة ثم ارتحل منها إلى مسعد ثم إلى جلفة ثم إلى بوسعده وهو في أثناء رحلته يوعظ ويدرس ويفقه الناس بأمور دينهم (26) وكانت لرحلته في جنوب الجزائر أثر في انضاج شخصيته، وفي إعداده لما أخذ نفسه به، فهاهو ذا يشهد ذلك العالم الذي يختلف إلى حد بعيد عن العالم الذي عهده في مدن الجزائر وفي فاس بالمغرب الأقصى، وهاهو ذا يرى ميادين جديدة للدعوة والإصلاح تتفتح له، عالم بدوي بعيد عن صور الحضارة وتعقيداتها، ثم هو في الوقت نفسه ملتقى الإسلام والوثنية.
ولقد كانت تلك البوادي، على سكونها وهدوئها، تضطرب بـألوان من الحركات الدينية والاقتصادية، وكانت الزوايا الدينية التي يقوم عليها أصحاب الطرق الصوفية هي أهم مراكز هذه الحركات، أو لعلها المراكز الوحيدة لها، وكانت هذه الزوايا، أو هذه المراكز الثقافية، تضع في الغالب على طرق التجارة التي تربط السودان بالشمال، وتنتقل بواسطتها السلع في قوافل ماتزال رائحة وغادية.
وفي هذه الزوايا يلتقي رجال القوافل القادمون من الجنوب والعائدون من الشمال، يجلسون إلى شيوخها، ويستروحون بالتلقي عنهم، والانغمار في جوهم، وبتبادل الأحاديث المختلفة عن البلاد التي جاءوا منها أو مروا بها وبذلك كانت تلك الزوايا محلاً ثرياً غنياً بالمعلومات (27) وأخبار الشعوب الإسلامية، وفي هذه الزوايا كان نشاط ابن السنوسي في السودان الغربي يقوم بواجب الدعوة إلى الله تعالى وقد أيقن أن من عوامل نهوض الأمة القيام بهذا الدور العظيم، فإن الإسلام الذي آمن به ابن السنوسي لايكتفي بأن يكون في نفسه صالحاً مهتدياً، وإنما يريد منه أن يكون مصلحاً هادياً، متسلحاً بالعلم، ومتحلياً بالحلم، ومتجملاً بالصبر، ومتحرراً من كل القيود التي تشده الى الأرض، وتقعد به عن كلمة الحق، وأظهار الاسلام لكل أنواع البشر، وفي كل البقاع، لم يبالي ابن السنوسي بالتعب والنصب في سبيل رسالته ودعوته بل كان محتسباً الأجر والمثوبة عند الله تعالى وكان يرى أن شرفه منوط بأداء تلك الرسالة المقدسة.
وقد مكث في تلك الديار مايقارب العامين معلماً ومربياً وداعياً.
ولقد استفاد من هذه التجربة دروساً عظيمة جعلته يركز في مستقبله على دعوة البداية لما رأى فيهم من صفاء الفطرة، وجمال الخلق، وحب التدين وبعدهم عن الفساد وتعقيد الحياة الاجتماعية ، وسيطرة الأهواء السياسية كما لاحظ ذلك في المدن التي عاش فيها (28) .

3- ومن الأسباب التي جعلته يغادر فاس رغبته الملحة لحج بيت الله الحرام، وزيارة مسجد النبي ولذلك غادر بلاد السودان الغربي في رفقة قافلة ذاهبة الى المشرق (29) .

خامساً: رحلته الى المشرق:

كان التفكير عند ابن السنوسي للسفر الى مكة طبيعياً، فهو من ناحية لابد وأنه تاقت نفسه الى بيت الله الحرام وحلم طويلاً بالعيش في الأراضي المقدسة، وقضاء فريضة الحج. كما أنه رأى في الإقامة بمكة فرصة لقاء كبار علماء العالم الاسلامي وقد استقرت في نفسه نصيحة أحد شيوخه إذ قال له: (إن الارتحال المستمر صعب فإذا أردت أن تستزيد من العلم فما عليك إلا السفر الى مكة حيث يلتقي جميع علماء المسلمين) (30) . بالإضافة الى التعرف على الشعوب الاسلامية عن قريب.
وقد ذكر بعض المؤرخين (31) أن ابن السنوسي قبل أن يسافر الى المشرق رجع الى بلده مستغانم وفيها قام بإتمام أول زواج له إذ بنى باحدى بنات عمومته ثم نشب بينه وبين أقاربه الأدنين خلاف حول أملاكه وذلك لأنهم كانوا قد وضعوا أيديهم عليها ولم يرسلوا له بشيء من ريعها طيلة مدة غيابه وطالب أولاد عمه بالريع وتسليم الملك له فامتنعوا عن ذلك فرفع عليهم قضية وربحها فسلمت له الحكومة أملاكه أما الريع فلم يجدوا منه شيئاً يدفع له لذا قامت الحكومة بسجن اولاد عمه فتنازل ابن السنوسي عن طلبه وطلب اخلاء سبيلهم فكان له ذلك. ثم انه بعد ذلك صفى أملاكه وانتقل الى جهة قسطنطينية وجاء عند عرب اسمهم اولاد نايل كانوا في جنوب شرق القسطنطينية فبنى عندهم زاوية ومارس هناك الوعظ والتعليم والارشاد.
وقرر بعد ذلك (ابن السنوسي) الارتحال الى مكة وعرض على زوجته ان ترافقه فلم ترغب في ذلك، فرأى أن يطلقها لعلمه بطول المدة التي يرغب فيها بالانقطاع عن بلده (32) وولد له من زواجه الأول طفل توفى وهو صغير ثم ماتت أمه بعد ذلك (33) .
وغادر ابن السنوسي الجزائر ودخل تونس وقابس وجامع الزيتونة واستفاد من شيوخها واستفاد الطلاب منه وطلب منه التدريس ولبى الطلب ثم واصل سيره ودخل طرابلس الغرب وكان ذلك في حكم يوسف القرمانلي الذي كان مستقلاً عن الدولة العثمانية، فأكرم نزله ومكث في مدينة طرابلس وضواحيها مدة للوعظ والارشاد والتعليم ونفع العباد ولم يترك بها مسجداً معروفاً إلا ألقى فيه دروساً وتعلق به آل المنتصر وأصبحوا فيما بعد هم النائبون عنه في طرابلس وسافر الى زليطن للوعظ والارشاد والدعوة واستطاع أن يكسب لدعوته انصاراً من مصراته وزليطن وطرابلس ومن أشهر الأسر التي أصبحت من ركائز الدعوة السنوسية فيما بعد؛ آل المحجوب ، وآل الآشهب ، وآل الدردني ، وآل عمران بن بركة ، وآل يوسف، وآل بن فرج الله وآل المقرحي وآل الثني وآل الغرياني وآل العيساوي وآل الغزالي وآل الهوني وآل الزناتي (34) وساعده على تعلق الناس به خلق كريم ، وطلعة بهية ، وقبول من رب العالمين.
ونستطيع أن نحدد تاريخ دخول ابن السنوسي بطرابلس الغرب من حديث حفيده احمد الشريف الذي تحدث عن اجتماع جده بأحد مريديه وهو عمران بن بركة (فكان اجتماعه به اثناء مروره عليهم قادماً من المغرب الى المشرق سنة ثمان وثلاثين بعد المئتين والالف في بلده زليتن بغرب طرابلس الغرب) (35) .
ومن خلال مروره على طول الساحل الافريقي تعرف على احوال مسلمي المغرب وكون فكرة عن أوضاعهم، واتاحت له تلك الرحلات التعرف على اناسٍ كثيرين وعلى اماكن كثيرة، وقد استفاد من هذا التعارف فيما بعد عند عودته من الحجاز، وكان من طبيعة ابن السنوسي ان يوطد علاقاته بمن يتعرف عليهم ووثق صلته بأشخاص كثيرين ونجح في كسب قلوب الكثيرين حتى ان رجلاً كعمران بن بركة كان يريد مرافقة ابن السنوسي ولكنه طلب منه التريث والانتظار حتى يرسل له (36) .
ووصل ابن السنوسي سيره ودخل برقة وقبل وصوله الى مدينة اجدابيا مر على نجع شيوخ المغاربة الشيخ علي لطيوش فأكرمه وقام بخدمته خير قيام دون سابق معرفة ورافقه الى اجدابيا وجهزه الى اوجله، ولم يمر ببنغازي ولا الساحل وتعرف على الشيخ عمر بوحوا الاوجلي وكان في رفقته عبد له، وعبدالله التواتي واستمر في رحلته مع الصحراء بواسطة القوافل حتى وصل القاهرة (37) .



نتابع بقية المبحث الأول في هذه الصفحة قريبآ إن شاء الله.
------------------------------------------------------------------------------------


المراجع

(1) انظر: المجموعة المختارة للإمام السنوسي، ص7.
(2) انظر: الفوائد الجلية في تاريخ العائلة السنوسية، عبدالقادر بن علي (1/8).
(3) انظر: السنوسية دين ودولة، د. محمد فؤاد شكري، ص11.
(4) انظر: الفوائد الجلية (1/10).
(5) انظر: الفوائد الجلية (1/10).
(6) المصدر السابق نفسه ( 1/11).
(7) المصدر السابق نفسه (1/11).
(8) انظر: السنوسية دين ودولة، ص13.
(9) انظر: السنوسية دين ودولة، ص13.
(10) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، محمد السيد ،ص41.
(11) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص62.
(12) انظر: السنوسية دين ودولة ، ص14.
(13) انظر: دراسات وصور من تاريخ الحياة الأدبية للحاجري، ص278.
(14) المصدر السابق نفسه، ص279.
(15) انظر: الحركة السنوسية للدجاني ، ص47 نقلاً عن حاضر العالم الاسلامي .
(16) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، ص43.
(17) امام التوحيد محمد بن عبدالوهاب للقطان ، ص109.
(18) انظر: السلسبيل ، ص7.
(19) انظر: الحركة السنوسية للدجاني ، ص51.
(20) انظر: السنوسية دين ودولة، ص14.
(21) انظر: سياحتي في صحراء أفريقيا الكبرى لصادق المؤيد، ص66.
(22) انظر: الاستقصاء للناصري (8/146).
(23) انظر: الاستقصاء للناصري (8/150).
(24) انظر: الحركة السنوسية ، ص55.
(25) انظر: السنوسية دين ودولة، ص14.
(26) انظر: الحركة السنوسية، ص57.
(27) انظر: دراسات وصور، للحاجري، ص81،82.
(28) دراسات وصور؛ للحاجري، ص282.
(29) المصدر السابق نفسه، ص283.
(30)انظر: الحركة السنوسية، ص59.
(31) منهم، احمد الدجاني.
(32) انظر: الحركة السنوسية للدجاني، 58.
(33) انظر: الفوائد الجليلة (1/13).
(34) المصدر السابق نفسه، (1/15،16،17).
(35) انظر: احمد الشريف، ص8 نقلاً عن الدجاني ، ص59.
(36) انظر: الحركة السنوسية للدجاني ، ص60.
(37) انظر: الفوائد الجليلة (1/15 الى 21).

شفيق
04-11-2007, 11:54 PM
بارك الله فيك يا اخي الاسد الخجول
يعطيك العافيه على الموضوع وننتظر البقية جزاك الله خير

الأسد الخجول
05-11-2007, 11:32 AM
جزاك الله الخير وبدوام العافية أخي شفيق .. شاكر لك على حضورك ونشاطك الفعال المتواصل في القسم مع الأخوان, والذي بدوره يحي الفكر بالمعلومة والخبر الصحيح مع تبادل وجهات النظر للوصول الى الرآي السديد والحقيقة الغائبة..

الأسد الخجول
10-12-2007, 10:27 AM
سادساً: دخوله القاهرة:

دخل ابن السنوسي مصر وكان الحكم آنذاك لمحمد علي باشا وكان صاحب الجولة والصولة وكان ذلك في عام 1239هـ/1824م وكان محمد علي باشا قد قبض على زمام الأمور في مصر بقوة منذ سنة 1805م وكانت فرصة لابن السنوسي ليتعرف على تجربة محمد علي باشا عن قرب وقد لاحظ ابن السنوسي عدة أمور جعلته لايرتاح الى نوع الحكم الذي أقامه محمد علي باشا وطريقة الاصلاح وازدادت قناعة ابن السنوسي فيما بعد بخطورة حركة محمد علي باشا التي كانت سياسته تخدم أعداء الاسلام وهيئة سياسته المنطقة بأكملها لمرحلة استعمارية مازالت آثارها تعاني منها الامة حتى اليوم لقد استطاعت السياسة النصرانية الأوروبية ان تحقق أهدافها الآتية بواسطة محمد علي باشا:

- تحطيم الدولة السعودية الأولى التي كادت أن تكون خنجراً مسموماً في ظهر الأطماع البريطانية في الخليج العربي خصوصاً والمشرق عموماً.

- فتح الأبواب على مصراعيها لإقامة مؤسسات معادية للدين الاسلامي والمسلمين في محافل ماسونية وإرساليات تبشيرية وأديرة وكنائس ومدارس في بذر التيارات القومية المعادية للإسلام، وبث الافكار المعادية لمصالح الامة الاسلامية .

- إتاحة الفرصة لشركات أوروبية تتحكم في الاقتصاد.

- منح امتيازات واسعة للأوروبين ، ومنع أهالي مصر والشام من تلك الامتيازات.

- خنق التيار الاسلامي الأصيل، وضيق على العلماء والفقهاء ولم يسمح للمسلمين أن يتكتلوا من أجل اهدافهم النبيلة (38).

وأما حالة الأزهر في ذلك الوقت فقد كان في انحطاط، فالعلوم التي تدرس فيه تراكم عليها الغبار لقدمها وفقدت لمعانها وبريقها لانعدام الإبداع فيها والتزام التقليد؛ أما علماء الأزهر فقد عمل محمد علي باشا على اضعاف دورهم ووقعت بينهم المنافسات والضغائن واستعان بعضهم بالحكام واستعداء السلطة على بعضهم وعمل محمد علي باشا على تقويض صف العلماء؛ كالخلاف الذي وقع بين الشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر ، وبين بعض المشايخ الآخرين حيث ترتب على ذلك الخلاف صدور الأمر من محمد علي باشا الى الشيخ الشرقاوي بلزوم داره وعدم الخروج منها ولا حتى الى صلاة الجمعة (39)، وسبب ذلك كما يقول الجبرتي: (أمور وضغائن ومنافسات بينه وبين إخوانه...، فأغروا به الباشا ففعل به ماذكر فامتثل الأمر ولم يجد ناصراً وأهمل أمره) (40) .

وقد أصيبت العلوم الدينية في الأزهر بالجمود والتحجر نتيجة لعدة عوامل منها؛

الاهتمام بالمختصرات:

(فأصبح الفقهاء ينقلون أقوال من قبلهم ، ويختصرون مؤلفاتهم في متون موجزة، ويأخذون هذه الأقوال مجردة من أدلتها من الكتاب والسنة، مكتفين بنسبتها الى اصحابها) (41) .
ويذكر الإمام الشوكاني اهتمام الناس في عصره بهذه المختصرات والخطورة التي تنطوي على ذلك فيقول :(قد جعلوا غاية مطالبهم ونهاية مقاصدهم العلم بمختصر من مختصرات الفقه التي هي مشتملة على ماهو من علم الرأي والرواية، والرأي أغلب، ولم يرفعوا الى غير ذلك رأساً من جميع أنواع العلوم، فصاروا جاهلين بالكتاب والسنة وعلمهما جهلاً شديداً، لأنه تقرر عندهم أن حكم الشريعة منحصر في ذلك المختصر، وأن ماعداه فضلة أو فضول فاشتد شغفهم به وتكالبهم عليه، ورغبوا عما عداه، وزهدوا فيه زهداً شديداً) (42) .

الشروح والحواشي والتقريرات:

انتشرت الشروح والحواشي والتقريرات في تلك الفترة في الأزهر الشريف وفي عموم الأمة، فكانت كالأغلال التي كبلت العقول وأدت الى جمود العلوم وكانت توجد بعض الحواشي والشروح المفيدة ولكنها لاتكاد تذكر، وكانت مناهج التعليم بعيدة عن منهج أهل السنة والجماعة، وكان الازهر مركزاً لعلوم المتكلمين البعيدة عن روح الاسلام وأصيبت المناهج الاسلامية بالاضافة الى الجمود موجة من الجفاف: (...وأصبحت الدراسات الاسلامية دراسة لا حياة فيها ولا روح، وجرت عدوى هذه الدراسات الى جميع أبواب الفقه حتى الأبواب التي كانت يجب أن تكون دراسة الروح أهم عنصر فيها...) (43) .

الإجازات :

من عوامل تدهور الحياة العلمية في الأزهر في تلك الفترة التساهل في منح الاجازات؛ فكانت تعطى جزافاً، إذ كان يكفي أن يقرأ الطالب أوائل كتاب أو كتابين مما يدرسه الأستاذ حتى ينال إجازة بجميع مروياته وكثير ما أعطيت لمن طلبوها من أهل البلاد القاصية عن طريق المراسلة، فكان العالم في القاهرة يبعث الى طالب في مكة بالإجازة دون أن يراه أو يختبره (44) .
فكان ذلك التساهل من الأمور التي شغلت المسلمين عن تحصيل العلوم، كما كان ينبغي، وهكذا كان التساهل في منح الإجازات عاملاً مهماً من عوامل انحدار المستوى التعليمي وضعف العلوم الشرعية، حيث أضحىالهدف عند كثير من المنتسبين الى العلم، حيازة أكبر عدد من هذه الإجازات الصورية التي لم يكن لها في كثير من الأحيان أي رصيد علمي في الواقع (45) .

رفض فتح باب الاجتهاد:

أصبحت الدعوى بفتح باب الاجتهاد تهمة كبيرة تصل الى الرمي بالكبائر ، وتصل عند بعض المقلدين والجامدين الى حد الكفر، وكانت الدعوة الى قفل باب الاجتهاد توارثها المتعصبون على مر العصور واصبح حرصهم في أواخر الدولة العثمانية ظاهراً ونافحوا من أجل عدم فتحه، ومقاومة كل من يحوم حوله مما شجع المتغربون بالسعي الدؤوب لاستيراد المبادئ والنظم من أوروبا ولقد ترتب على إغلاق باب الاجتهاد آثاراً خطيرة لاتزال أضرارها تنخر في حياة المسلمين الى يومنا هذا. (فحين يتوقف الاجتهاد مع وجود دواعيه ومتطلباته فما يحدث؟
يحدث أحد الأمرين: إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو، لأنها محكومة بقوالب لم تعد تلائمها؛ وإما تخرج على القوالب المصبوبة، وتخرج في ذات الوقت من ظل الشريعة ، لأن هذا الظلم لم يمد بالاجتهاد حتى يعطيها ، وقد حدث الأمران معاً، الواحد تلو الآخر.. الجمود أولاً ثم الخروج بعد ذلك من دائرة الشريعة) (46) .

لقد عانت الأمة من قفل باب الاجتهاد وكانت الدولة العثمانية في أواخر عهدها لم تعطي هذا الباب حقه وكانت عجلة الحياة أسرع وأقوى من الجامدين والمقلدين الذين ردوا كل جديد، وخرج الأمر من أيديهم: (وهكذا توقفت الحركة العقلية عند المسلمين إزاء كل جديد تلده الحياة، والحياة ولود لا تتوقف عن الولادة أبداً، فهي تلد كل يوم جديداً لم تكن تعرفه الانسانية من قبل وكان من هذا أن مضى الناس -من غير المسلمين- يواجهون كل جديد، ويتعاملون معه، ويستولدون منه جديداً، وهكذا سار الناس من غير المسلمين قدماً في الحياة ووقف المسلمون حيث هم لايبرحون مكانهم الذي كان عليه الآباء والأجداد من بضعة قرون) (47) .

التعصب المذهبي:

استمر التعصب المذهبي في الأزهر يضعف المستوى التعليمي، وانحدرت العلوم، وتكبلت العقول والأفهام وفرق بين كلمة المسلمين وأفسد ذات بينهم، وزرع العداء والشقاق بين أفرادهم وجماعتهم بعد أن تحزبوا طوائف وجماعات، كل طائفة تناصر مذهبها، وتعادي غيرها من أجله ، وفي تلك الفترة تفاقم هذا التعصب وعم الاقطار الاسلامية ولم يسلم منه قطر ولا مصر؛ فالجامع الأزهر كان ميداناً رحباً للصراعات المذهبية خصوصاً بين الشوافع والاحناف وذلك من أجل التنافس الشديد على مشيخة الأزهر (48) . إن العصبية المذهبية أوجدت حواجز كثيفة بين المسلمين في القرون الأخيرة؛ فأضعفت شعورهم بوحدتهم الاسلامية اجتماعياً وسياسياً، وأورثت فيما بينهم من العداوات ماشغلهم عن أعداء الاسلام على اختلاف أنواعهم، وعن الاخطار المحدقة بالمسلمين والاسلام...) (49 ) .

كانت زيارته لمصر قد رسخت في نفسه ضعف دولة الخلافة من جهة، وزاد ضعفها بظهور حكومة محمد علي باشا على مسرح الأحداث في مصر وقد وصل الى قناعة مهمة في الإصلاح والنهوض من أهمها:

1. أن المسلمين كانوا في حاجة ضرورية الى العلماء الربانيين الذين يقومون بنشر الدعوة للدين القويم.

2. أهمية احياء مبدأ الشورى على مستوى الحكومات وخطورة الحكام المستبدين الذين يتحكمون في رقاب الأمة بإسم الاسلام.

3. خطورة جمود العلماء وتعصبهم وتقاعسهم في نشر العلوم النافعة بين جميع طبقات الشعب.

4. أهمية تعلم الصنائع وتعميمها لسد حاجات الشعب، وتحبيب عوام المسلمين الفروسية، والرياضة واستعمال السلاح.

5. خطورة التسويف وترك العمل الجاد الخلاق.

وقد عمل ابن السنوسي في تلك الفترة على اكمال فكره ورأيه وظهر بهذه النتيجة التي تقول؛ أنه في حاجة ملحة الى تحصيل علوم كثيرة غير العلوم العقلية والنقلية التي استفادها من فاس، واقتنع أن تفوق أوروبا هو وليد العلم الذي سبب لهم التفوق في مجال الصناعة والرياضة، والفنون الحربية العملية وقد لمس ذلك في المشاريع التي اشرفت عليها فرنسا وبريطانيا في مصر في زمن محمد علي باشا.

والنتيجة الثانية أن من أسباب عدم تقدم الاسلام وعدم اتحاده ؛ اختلاف المذاهب وكثرة الطرق، والحكم الفردي الاستبدادي، وابتعاد الأمة عن روح الاسلام المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله
(50) .
وبعد هذه التجربة القصيرة في مصر قرر مواصلة سفره الى الحجاز بعد أن أقام عاماً واحداً وقد أحدثت زيارته لها آثاراً في نفسه من ذلك انه ازداد إيماناً بأن دولة الخلافة كانت في طريق الانحلال والاضمحلال، وقد ذكر المؤرخ التركي احمد حلمي قوله:

(وأحدثت هذه الزيارة في نفسه تبدلاً عظيماً وانتقش في ذهنه ان الدولة العثمانية في طريق الانحلال والاضمحلال ) (51) .

لقد خبر ابن السنوسي اوضاع الدولة العثمانية في وطنه الاول الجزائر حيث تسلط الولاة الاتراك وحكمهم الاستبدادي ، وعجز الدولة عن منعهم من الظلم، وجاء الى القاهرة فرأى حكم محمد علي باشا وانفراده بشؤون مصر ، فزاد اقتناعاً بعجز الدولة وضعفها (52) .


------------------------------------------------------------------------------------

المراجع:-

(38) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض واسباب السقوط، لعلي الصلابي، ص590.
(39) المصدر السابق نفسه ،ص590.
(40) انظر: عجائب الآثار (3/134).
(41) انظر: واقعنا المعاصر ، ص56.
(42) انظر: البدر الطالع بمحاسن مابعد القرن السابع (1/86).
(43) المجتمع الاسلامي ، محمد المبارك ، ص210.
(44) الانحرافات العقدية والعلمية للزهراني (2/59).
(45) المصدر السابق نفسه (2/64).
(46) انظر: واقعنا المعاصر، ص159.
(47) انظر : سد باب الاجتهاد وماترتب عليه ، د. عبدالكريم الخطيب، ص144.
(48)انظر : عجائب الآثار (2/242).
(49)انظر: الانحرافات العقدية والعلمية (2/86).
(50)انظر: السنوسية دين ودولة ، ص18.
(51)انظر: الحركة السنوسية ، ص65.
(52) المصدر السابق نفسه ، ص65.


ولنا عودة بأذن الله ..