الفرزدق
23-08-2000, 07:21 PM
الــشــهــداء
العمليات الإستشهادية الأربعة فداء وتضحية
عجباً ثم عجباً لحال أولئك القوم، هل هم بشر مثلنا ، ألا يهابون الموت..! كيف تجرّءوا ؟ ولمَ هذه الجرأة ؟ ولأجل من ؟ كل هذا أسئلة تدور في خلد كل من يقرأ قصة المجاهدين الأربعة الذين قاموا بأعظم عمل في بلاد الشيشان منذ قيام الجهاد فيها منذ تسعة أشهر تقريباً ، إنه العمل الذي هزّ روسيا بأكملها وأرعب الجيش الروسي أجمع ..! إنها العمليات الإستشهادية التي حاول الروس كتمان حقيقتها ، وتعتيم خبرها ، إذ أنها كانت قاصمةً لظهورهم، مشتتةً لشملهم، لقد كانت هذه العمليات تنبئ عن إيمان عظيم في أعماق أصحابها وعقيدة صافية لا يخالطها أدنى شك في موعود الله عز وجل للشهداء في الجنة والنعيم، إن هؤلاء الشباب قد سمعوا قول الله تعالى :
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) وسمعوا قوله عز وجل: ( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون* الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ) فسارعوا وتسابقوا إلى الجنة والدرجات العلى، فما إن عُرضت عليهم فكرة العمل حتى اشرأبت أعناقهم لها ، وهم يعلمون أن عاقبتها أعظم شيء يتمنونه وهو الشهادة في سبيل الله ، قام بعضهم فاستخار الله تعالى ففرحوا واستبشروا ، وكان يغلب عليهم طابع الطمأنينة والسكينة والهدوء ، وبعضهم قام وشعر بعظيم الفرصة وخشي فواتها ، فأسلم أمره لله عز وجل وذهب راجياً رحمة الله دون خوف أو تردد ، الغريب في الأمر أن هؤلاء الأبطال كانوا على عجلة من أمرهم ، يريدون القيام بعملهم اليوم قبل الغد والساعة قبل التي تليها ، حتى إن أحدهم كان يخاطب أميره قائلاً : لم أعد أصبر إنني في شوق عظيم إلى الشهادة والجنة ، إنني في شوق عظيم إلى الله عز وجل ، يالها من قلوب أيقنت بالله تعالى حق اليقين ، ويالها من نفوس صدقت مع الله الصدق المبين، إنهم يذكروننا بفعال السابقين من الصحابة والتابعين ، يذكروننا بالبراء بن مالك ، وكيف ألقى بنفسه في حصن الروم ، فقاتل قتالاً شديداً حتى خرجت أمعائه من بطنه فأمسك بها ، ولازال يقاتل حتى فتح باب الحصن للمسلمين، فكان الفتح المبين والنصر المتين، فها هي ذي النفوس ترتقي ولحبال المنايا لا تتقي ، فيقوم رجل من نوادر الرجال هو خاتم لله دره ودر أمثاله من الشجعان ، لقد والله عرفناه محباً للطاعات ولحلق العلم ، فقد كان ذا خلق رفيع وحلم منيع وصدر واسع ، قام الشهيد خاتم مودعاً إخوانه قبل الفراق ليذهب كلٌ إلى مكانه لرصد طريقة الحركة وتجهيز الشاحنات الملغمة ، وقال لهم : اللقاء بعد ثلاثة أيام إن شاء الله ، يريد في الجنة تعانق الأحباب عناق الفراق غير الطويل ، لأن اللقاء بعد ثلاثة أيام بإذن الله ، وعانق أخاه علياً ذاك الليث المقدام والذي كان أحد الأربعة الشهداء...! يا للعجب شقيقان يضحيان بروحيهما في يوم واحد وفي وقت واحد...! إنه لأمر مذهل يستحق العجب والتأمل ، إنهما يعيدان الذاكرة إلى الوراء حيث قصة أبناء الخنساء ، في يوم واحد قتل أربعة من أبنائها ، لا زالت الأيام تمر والساعات تجري والشوق في ازدياد ليحصل المراد وتطهر البلاد من زمرة الفساد ، ويخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، اقترب اليوم الموعود والركب في صمود ليحطموا القيود ويكسروا السدود كسراً بلا حدود ، وبدلاً من أن تزداد دقات القلب انخفضت ، وبدلاً من أن تضطرب النفوس سكنت ، وفي الساعة السابعة من يوم الأحد انطلقت الشاحنات الأربعة بقيادة الأفذاذ الأربعة خاتم وأخيه علي وعبد الملك ومولادي ، يا لله إنها للحظات شديدة تنطلق فيها القنابل الموقوتة ، لتسقي الكافرين كأس المنون ، وتسوؤهم سوء العذاب في الدنيا ، وتوصلهم إلى أشد العذاب في الآخرة.
فها هو خاتم ينطلق مسرعاً إلى حيث تمركز العدو في منطقة أرغون ، ولسان حاله ينادي :
أقسمت يا نفس لتنزلن مطاوعةً أو لتكرهنّ
إن أجدب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنة
وفي أثناء الطريق ، فوجئ البطل المقتحم بوجود ثلاثة من أهالي المدينة بالقرب من مبنى الكفار، فأراد ألا يصيبهم أذىً من الهول الذي سيقع على الأعداء ، فنظر إليهم نظرة شعروا منها كما اخبروا بذلك أنه يريد منهم الابتعاد ، وبالفعل ابتعد هؤلاء المسلمون ، ثم واصل انطلاقه وسيره إلى هؤلاء المفسدين الأوغاد ، فكسر بعض حواجزهم وسدودهم ، ثم اقتحم حتى أدخل سيارته في عقر دار الكفار، وأنهى آخر لحظة من حياته الدنيوية لينتقل بعدها إلى الحياة الأخروية التي لا تفنى ولا تنقضي ، أوصلت أنامله أسلاك الوصال بالله الكبير المتعال، وانصبت الأهوال على أهل الكفر والظلال ، والكل حق الانتقال ، ولكن شتان بين انتقال وانتقال ، فانتقال إلى جنات ذات ظلال ، وانتقال إلى جحيم ذات أهوال ، فإلى رحمة الله ورضوانه يا خاتم فلقد قتل الله على يديك مئات من الكفار ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" لا يجتمع كافر وقاتله في النار " .
ومن خاتم إلى شقيقه علي ، ذاك الرجل الذي لا يقل عن أخيه الأكبر من حيث الخلق والسماحة وحب الخير، انطلق كأخيه انطلاقة الخيل المضمرة في السباق ، وحقاً إنه لسباق، ألم تسمع قول الله عز وجل :( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ألم تر أن الله وصف عباده بوصفِ أرفعهم درجة ، فوصفُ أرفعهم درجة السابقون ، فقال عز من قائل :( والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم ) .
كان علي قد اُختيرت له قرية نيبير، وهي إحدى القرى في منطقة قدرميس العاصمة المزعومة ، كان علي متلهفٌ للقاء الله عز وجل ، حتى إنه لما قيل له إن العملية اليوم في السابعة مساءً فرح واستبشر وحمد الله وكبر ، فعجب له صاحبه وعجب لحاله ، فلم يتمالك نفسه حتى فاضت عيناه بالدموع ، فقال له علي : لِم تبك ، كلنا سوف نموت وإنني ذاهب إلى الجنة بإذن الله ، فامتطى عليٌ شاحنته التي تحمل بين جوانبها البلاء الأسود على أعداء الله ، والوبال العظيم على حزب الشيطان ، فاشتعل الوقود ودارت العجلات وسارت شاحنة الموت والهلاك للأعداء، فالموت لهم ثم الموت لهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، فاقتربت الشاحنة من الهدف حتى إذا استقبلت البوابة واحتضنتها ، سلط الهزبر ضربته القاصمة على العدو، فخر السقف عليهم من فوقهم، وتزلزلت الأرض من تحتهم والتهمتهم النار من أمامهم و من خلفهم فأرداهم صرعى ( كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) لا والله إلا أقل القليل ، حيث إن موجة الانفجار ، لم تبق منهم أحداً ، ولم تذر إلا بقايا من الجرحى والمعاقين،فإلى الجحيم يا أصحاب الجحيم ، هنيئاً لك يا علي ، فلقد كان انقضاء دنياك في سبيل الله كما نحسبك ، وغيرك يموت في سبيل الشيطان والهوى ، فإلى جنات الخلود يا علي برحمة الله العلي .
ثم ماذا تراني أقول أو أكتب ؟ ماذا أقول عن ذاك المغوارعبد الملك؟ ذاك الرجل المهياب ، الذي لم يهب الموت بل هابه الموت ، فلقد عرفه الأخوة بشجاعته وإقدامه ، وإليك الدليل كان حاله كحال أخويه خاتم وعلي لاستقباله لخبر العمليات الاستشهادية بأرحب صدر وأسعد قلب وأهنأ بال وأطيب حال ، فهو أمر عظيم المنال فعلامَ الخوف والضعف والهزال ، قال الشهيد كلماته الأخيرة التي أوصى بها الأمراء ، وخاصة شامل بساييف بمساعدة الفقراء ومعاونتهم ، وخاصة اليتامى ، تأسياً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أمسك الفارس بعنان شاحنته وطار على متنها يبتغي القتل والموت مظانه ، فطوبى لك ولأمثالك يا فارس الإسلام، فبسرعة وإقدام انطلق عبد الملك بشاحنته ، وكأنه يترنم بأبيات الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه :
ركضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وطلب المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
حتى إذا لم يبق بينه وبين المكان المطلوب سوى 150م تبعه بعض المنافقين من الشرطة الموالية للعدو الروسي عندما أبى أن يوقف سيارته لنقطة التفتيش عندهم ، فأطلقوا عليه الرصاص فقاومهم ، وأردى منهم واحداً قتيلاً، ثم استمر في اشتباك مع القوات الروسية مرة ثانية وثالثة ، ومع كل هذا أصرّ على المضي قدماً نحو العدو الذي أصابه الفزع من هذه السيارة المسرعة نحوه ، مع أن عجلاتها كانت قد انفجرت بسبب الرصاص ، فقتل منهم أربعة وكان جريحاً ، كل هذا بسلاحه الرشاش ، ومع هذا فقد استمر بالمضي قدماً نحو المبنيين الكبيرين ليجعلهما كثيباً من تراب وأشلاء ، فكان الانفجار مفجعاً مفزعاً ، قُتل فيه من العدو عدد كبير جداً حيث كان المبنيان يضمان أكثر من (500) من القوات الخاصة الأمون ، اللهم تقبل أخانا عبد الملك ، وتقبل منه وارفع درجته في أعالي الجنان في الفردوس الأعلى ، واجمعنا به يا أكرم مسئول ، ويا خير مأمول .
ولننتقل الآن إلى رابع الأربعة ، بل أولهم ، ذلك الشاب ذي القدم المبتورة إنه مولادي ، ذاك السيف المسلول على أعداء الله من الكفرة والمنافقين ، ذاك الأبيُّ الفتاك الذي أثخن بالكفار قتلاً وتشريداً ، سمع بأن ثمَّةَ عمليات استشهادية سوف تنفّذ ، فبادر إلى ذلك وطلب منه أحد الأمراء ألا يذهب ، وأخبره أن الناس يحتاجونه بعد انتهاء الحرب ، وحقاً فإن مثله ليُحتاج إليه ، فلقد كان مولادي رئيساً لإحدى المحاكم الشرعية التي أقيمت في الشيشان بعد انتهاء حرب عام 96م ، وقد كان قاضياً معتبراً وطالباً للعلم والهدى ، وكان يجيد التحدث باللغة العربية، وكان يغلب عليه طابع الهدوء وحسن الخلق ، حتى إنه ليُضرب بحسن خلقه المثل، ولما طلب منه الأمير ألا يقوم بهذه العملية الإستشهادية بدأ يبكي حتى أذن له ، ثم قام وسارع ليعدّ عدته و يستعد للقاء الله تعالى ، وسار إلى الموت طالباً ، و إلى جنة الخلد راغباً ، فبعداً للنفوس الذليلة ومرحباً بالنفوس النبيلة ، قام الأسد المصون مولادي مودعاً إخوانه و متفاءلاً بطيب عمله عند الله عز وجل ، فارتدى ثوب المنايا وتقلد درع الوفاء راجياً رحمن السماء، وانطلق السيف البتار إلى زمرة الأشرار ، ليلحق بهم القتل والدمار ، ويتحرر من قيود الدنيا إلى دار القرار إن شاء الله ، ففي منطقة أروس مرتان قام مولادي بذلك الانفجار الرهيب الذي أسقط العدد الكبير من القوات الروسية بين قتيل وجريح ، وانتقل الأبيُّ إلى جوار ربه الذي نسأله سبحانه أن يتقبله بقبول حسن ويجزيه خير الجزاء أن جاد بروحه لله عز وجل وباع نفسه ودنياه لتكون كلمة الله هي العليا ، ومما أبشر به جميع المسلمين أن المهندس الذي قام بتنسيق هذه العمليات قد رأى الشهيد عبد الملك في رؤيا بعدما قُتلوا بثلاثة أيام ، فقال له : أين أنتم ؟ فقال عبد الملك : تحت العرش ...! فالله أكبر إن هذا ما نرجوه من الله عز وجل فهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن من الكرامات في هذه العمليات أن الله قد عصم المسلمين فلم يُقتل أحدٌ منهم في هذه الانفجارات المهولة، فله الحمد وله الشكر .
هذه هي قصة الشهداء الأربعة الأفذاذ الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم ليحيا الإسلام ولسان حالهم يقول : لا ضير أن أقتل ويحيا الإسلام .
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
سارت القافلة ووصل الركب فأنعم به من ركب وأكرم بها من قافلة .
في كل يوم للجنان قوافل شهداء راض عنهم العلام
ماذا أقول بوصف ما قاموا به عجز البيان وجفت الأقلام
لله در ضياغم من أسدنا لعظائم الأعمال فيها قاموا
من كل من عاف الحياة مجاهداً وسلاحه الإيمان والإقدام
باعوا نفوسهم لنصرة دينهم لم يخدعنهم في الحياة حطام
العمليات الإستشهادية الأربعة فداء وتضحية
عجباً ثم عجباً لحال أولئك القوم، هل هم بشر مثلنا ، ألا يهابون الموت..! كيف تجرّءوا ؟ ولمَ هذه الجرأة ؟ ولأجل من ؟ كل هذا أسئلة تدور في خلد كل من يقرأ قصة المجاهدين الأربعة الذين قاموا بأعظم عمل في بلاد الشيشان منذ قيام الجهاد فيها منذ تسعة أشهر تقريباً ، إنه العمل الذي هزّ روسيا بأكملها وأرعب الجيش الروسي أجمع ..! إنها العمليات الإستشهادية التي حاول الروس كتمان حقيقتها ، وتعتيم خبرها ، إذ أنها كانت قاصمةً لظهورهم، مشتتةً لشملهم، لقد كانت هذه العمليات تنبئ عن إيمان عظيم في أعماق أصحابها وعقيدة صافية لا يخالطها أدنى شك في موعود الله عز وجل للشهداء في الجنة والنعيم، إن هؤلاء الشباب قد سمعوا قول الله تعالى :
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) وسمعوا قوله عز وجل: ( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون* الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ) فسارعوا وتسابقوا إلى الجنة والدرجات العلى، فما إن عُرضت عليهم فكرة العمل حتى اشرأبت أعناقهم لها ، وهم يعلمون أن عاقبتها أعظم شيء يتمنونه وهو الشهادة في سبيل الله ، قام بعضهم فاستخار الله تعالى ففرحوا واستبشروا ، وكان يغلب عليهم طابع الطمأنينة والسكينة والهدوء ، وبعضهم قام وشعر بعظيم الفرصة وخشي فواتها ، فأسلم أمره لله عز وجل وذهب راجياً رحمة الله دون خوف أو تردد ، الغريب في الأمر أن هؤلاء الأبطال كانوا على عجلة من أمرهم ، يريدون القيام بعملهم اليوم قبل الغد والساعة قبل التي تليها ، حتى إن أحدهم كان يخاطب أميره قائلاً : لم أعد أصبر إنني في شوق عظيم إلى الشهادة والجنة ، إنني في شوق عظيم إلى الله عز وجل ، يالها من قلوب أيقنت بالله تعالى حق اليقين ، ويالها من نفوس صدقت مع الله الصدق المبين، إنهم يذكروننا بفعال السابقين من الصحابة والتابعين ، يذكروننا بالبراء بن مالك ، وكيف ألقى بنفسه في حصن الروم ، فقاتل قتالاً شديداً حتى خرجت أمعائه من بطنه فأمسك بها ، ولازال يقاتل حتى فتح باب الحصن للمسلمين، فكان الفتح المبين والنصر المتين، فها هي ذي النفوس ترتقي ولحبال المنايا لا تتقي ، فيقوم رجل من نوادر الرجال هو خاتم لله دره ودر أمثاله من الشجعان ، لقد والله عرفناه محباً للطاعات ولحلق العلم ، فقد كان ذا خلق رفيع وحلم منيع وصدر واسع ، قام الشهيد خاتم مودعاً إخوانه قبل الفراق ليذهب كلٌ إلى مكانه لرصد طريقة الحركة وتجهيز الشاحنات الملغمة ، وقال لهم : اللقاء بعد ثلاثة أيام إن شاء الله ، يريد في الجنة تعانق الأحباب عناق الفراق غير الطويل ، لأن اللقاء بعد ثلاثة أيام بإذن الله ، وعانق أخاه علياً ذاك الليث المقدام والذي كان أحد الأربعة الشهداء...! يا للعجب شقيقان يضحيان بروحيهما في يوم واحد وفي وقت واحد...! إنه لأمر مذهل يستحق العجب والتأمل ، إنهما يعيدان الذاكرة إلى الوراء حيث قصة أبناء الخنساء ، في يوم واحد قتل أربعة من أبنائها ، لا زالت الأيام تمر والساعات تجري والشوق في ازدياد ليحصل المراد وتطهر البلاد من زمرة الفساد ، ويخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، اقترب اليوم الموعود والركب في صمود ليحطموا القيود ويكسروا السدود كسراً بلا حدود ، وبدلاً من أن تزداد دقات القلب انخفضت ، وبدلاً من أن تضطرب النفوس سكنت ، وفي الساعة السابعة من يوم الأحد انطلقت الشاحنات الأربعة بقيادة الأفذاذ الأربعة خاتم وأخيه علي وعبد الملك ومولادي ، يا لله إنها للحظات شديدة تنطلق فيها القنابل الموقوتة ، لتسقي الكافرين كأس المنون ، وتسوؤهم سوء العذاب في الدنيا ، وتوصلهم إلى أشد العذاب في الآخرة.
فها هو خاتم ينطلق مسرعاً إلى حيث تمركز العدو في منطقة أرغون ، ولسان حاله ينادي :
أقسمت يا نفس لتنزلن مطاوعةً أو لتكرهنّ
إن أجدب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنة
وفي أثناء الطريق ، فوجئ البطل المقتحم بوجود ثلاثة من أهالي المدينة بالقرب من مبنى الكفار، فأراد ألا يصيبهم أذىً من الهول الذي سيقع على الأعداء ، فنظر إليهم نظرة شعروا منها كما اخبروا بذلك أنه يريد منهم الابتعاد ، وبالفعل ابتعد هؤلاء المسلمون ، ثم واصل انطلاقه وسيره إلى هؤلاء المفسدين الأوغاد ، فكسر بعض حواجزهم وسدودهم ، ثم اقتحم حتى أدخل سيارته في عقر دار الكفار، وأنهى آخر لحظة من حياته الدنيوية لينتقل بعدها إلى الحياة الأخروية التي لا تفنى ولا تنقضي ، أوصلت أنامله أسلاك الوصال بالله الكبير المتعال، وانصبت الأهوال على أهل الكفر والظلال ، والكل حق الانتقال ، ولكن شتان بين انتقال وانتقال ، فانتقال إلى جنات ذات ظلال ، وانتقال إلى جحيم ذات أهوال ، فإلى رحمة الله ورضوانه يا خاتم فلقد قتل الله على يديك مئات من الكفار ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" لا يجتمع كافر وقاتله في النار " .
ومن خاتم إلى شقيقه علي ، ذاك الرجل الذي لا يقل عن أخيه الأكبر من حيث الخلق والسماحة وحب الخير، انطلق كأخيه انطلاقة الخيل المضمرة في السباق ، وحقاً إنه لسباق، ألم تسمع قول الله عز وجل :( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ألم تر أن الله وصف عباده بوصفِ أرفعهم درجة ، فوصفُ أرفعهم درجة السابقون ، فقال عز من قائل :( والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم ) .
كان علي قد اُختيرت له قرية نيبير، وهي إحدى القرى في منطقة قدرميس العاصمة المزعومة ، كان علي متلهفٌ للقاء الله عز وجل ، حتى إنه لما قيل له إن العملية اليوم في السابعة مساءً فرح واستبشر وحمد الله وكبر ، فعجب له صاحبه وعجب لحاله ، فلم يتمالك نفسه حتى فاضت عيناه بالدموع ، فقال له علي : لِم تبك ، كلنا سوف نموت وإنني ذاهب إلى الجنة بإذن الله ، فامتطى عليٌ شاحنته التي تحمل بين جوانبها البلاء الأسود على أعداء الله ، والوبال العظيم على حزب الشيطان ، فاشتعل الوقود ودارت العجلات وسارت شاحنة الموت والهلاك للأعداء، فالموت لهم ثم الموت لهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون ، فاقتربت الشاحنة من الهدف حتى إذا استقبلت البوابة واحتضنتها ، سلط الهزبر ضربته القاصمة على العدو، فخر السقف عليهم من فوقهم، وتزلزلت الأرض من تحتهم والتهمتهم النار من أمامهم و من خلفهم فأرداهم صرعى ( كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية ) لا والله إلا أقل القليل ، حيث إن موجة الانفجار ، لم تبق منهم أحداً ، ولم تذر إلا بقايا من الجرحى والمعاقين،فإلى الجحيم يا أصحاب الجحيم ، هنيئاً لك يا علي ، فلقد كان انقضاء دنياك في سبيل الله كما نحسبك ، وغيرك يموت في سبيل الشيطان والهوى ، فإلى جنات الخلود يا علي برحمة الله العلي .
ثم ماذا تراني أقول أو أكتب ؟ ماذا أقول عن ذاك المغوارعبد الملك؟ ذاك الرجل المهياب ، الذي لم يهب الموت بل هابه الموت ، فلقد عرفه الأخوة بشجاعته وإقدامه ، وإليك الدليل كان حاله كحال أخويه خاتم وعلي لاستقباله لخبر العمليات الاستشهادية بأرحب صدر وأسعد قلب وأهنأ بال وأطيب حال ، فهو أمر عظيم المنال فعلامَ الخوف والضعف والهزال ، قال الشهيد كلماته الأخيرة التي أوصى بها الأمراء ، وخاصة شامل بساييف بمساعدة الفقراء ومعاونتهم ، وخاصة اليتامى ، تأسياً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أمسك الفارس بعنان شاحنته وطار على متنها يبتغي القتل والموت مظانه ، فطوبى لك ولأمثالك يا فارس الإسلام، فبسرعة وإقدام انطلق عبد الملك بشاحنته ، وكأنه يترنم بأبيات الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه :
ركضاً إلى الله بغير زاد إلا التقى وطلب المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
حتى إذا لم يبق بينه وبين المكان المطلوب سوى 150م تبعه بعض المنافقين من الشرطة الموالية للعدو الروسي عندما أبى أن يوقف سيارته لنقطة التفتيش عندهم ، فأطلقوا عليه الرصاص فقاومهم ، وأردى منهم واحداً قتيلاً، ثم استمر في اشتباك مع القوات الروسية مرة ثانية وثالثة ، ومع كل هذا أصرّ على المضي قدماً نحو العدو الذي أصابه الفزع من هذه السيارة المسرعة نحوه ، مع أن عجلاتها كانت قد انفجرت بسبب الرصاص ، فقتل منهم أربعة وكان جريحاً ، كل هذا بسلاحه الرشاش ، ومع هذا فقد استمر بالمضي قدماً نحو المبنيين الكبيرين ليجعلهما كثيباً من تراب وأشلاء ، فكان الانفجار مفجعاً مفزعاً ، قُتل فيه من العدو عدد كبير جداً حيث كان المبنيان يضمان أكثر من (500) من القوات الخاصة الأمون ، اللهم تقبل أخانا عبد الملك ، وتقبل منه وارفع درجته في أعالي الجنان في الفردوس الأعلى ، واجمعنا به يا أكرم مسئول ، ويا خير مأمول .
ولننتقل الآن إلى رابع الأربعة ، بل أولهم ، ذلك الشاب ذي القدم المبتورة إنه مولادي ، ذاك السيف المسلول على أعداء الله من الكفرة والمنافقين ، ذاك الأبيُّ الفتاك الذي أثخن بالكفار قتلاً وتشريداً ، سمع بأن ثمَّةَ عمليات استشهادية سوف تنفّذ ، فبادر إلى ذلك وطلب منه أحد الأمراء ألا يذهب ، وأخبره أن الناس يحتاجونه بعد انتهاء الحرب ، وحقاً فإن مثله ليُحتاج إليه ، فلقد كان مولادي رئيساً لإحدى المحاكم الشرعية التي أقيمت في الشيشان بعد انتهاء حرب عام 96م ، وقد كان قاضياً معتبراً وطالباً للعلم والهدى ، وكان يجيد التحدث باللغة العربية، وكان يغلب عليه طابع الهدوء وحسن الخلق ، حتى إنه ليُضرب بحسن خلقه المثل، ولما طلب منه الأمير ألا يقوم بهذه العملية الإستشهادية بدأ يبكي حتى أذن له ، ثم قام وسارع ليعدّ عدته و يستعد للقاء الله تعالى ، وسار إلى الموت طالباً ، و إلى جنة الخلد راغباً ، فبعداً للنفوس الذليلة ومرحباً بالنفوس النبيلة ، قام الأسد المصون مولادي مودعاً إخوانه و متفاءلاً بطيب عمله عند الله عز وجل ، فارتدى ثوب المنايا وتقلد درع الوفاء راجياً رحمن السماء، وانطلق السيف البتار إلى زمرة الأشرار ، ليلحق بهم القتل والدمار ، ويتحرر من قيود الدنيا إلى دار القرار إن شاء الله ، ففي منطقة أروس مرتان قام مولادي بذلك الانفجار الرهيب الذي أسقط العدد الكبير من القوات الروسية بين قتيل وجريح ، وانتقل الأبيُّ إلى جوار ربه الذي نسأله سبحانه أن يتقبله بقبول حسن ويجزيه خير الجزاء أن جاد بروحه لله عز وجل وباع نفسه ودنياه لتكون كلمة الله هي العليا ، ومما أبشر به جميع المسلمين أن المهندس الذي قام بتنسيق هذه العمليات قد رأى الشهيد عبد الملك في رؤيا بعدما قُتلوا بثلاثة أيام ، فقال له : أين أنتم ؟ فقال عبد الملك : تحت العرش ...! فالله أكبر إن هذا ما نرجوه من الله عز وجل فهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وإن من الكرامات في هذه العمليات أن الله قد عصم المسلمين فلم يُقتل أحدٌ منهم في هذه الانفجارات المهولة، فله الحمد وله الشكر .
هذه هي قصة الشهداء الأربعة الأفذاذ الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم ليحيا الإسلام ولسان حالهم يقول : لا ضير أن أقتل ويحيا الإسلام .
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
سارت القافلة ووصل الركب فأنعم به من ركب وأكرم بها من قافلة .
في كل يوم للجنان قوافل شهداء راض عنهم العلام
ماذا أقول بوصف ما قاموا به عجز البيان وجفت الأقلام
لله در ضياغم من أسدنا لعظائم الأعمال فيها قاموا
من كل من عاف الحياة مجاهداً وسلاحه الإيمان والإقدام
باعوا نفوسهم لنصرة دينهم لم يخدعنهم في الحياة حطام