PDA

View Full Version : مـــــأســـــــــات إمــــــــرأه


دكتور_احمد
04-01-2001, 11:45 AM
^1


مأساة امرأة
لا أنكر أنني من عائلة فقيرة غارقة في بحر من الديون والدي ..لا أخجل من كون كان يعمل بائعاً متجولاً للخبز والفطائر التي تصنعها أمي وأختي الكبيرة في منتصف الليل ونحن نيام تكون .. أعرف جيداً أنني لست جميلة كما يجب أن الفتيات اللواتي في مثل عمري عمــر .. آه إنه العمر الذي يطلقون عليه اسم الزهور ..بشرتي ..لكنني كنت أشبه بالزهرة الملقاة بالقرب من كومة زبالة سمراء حنطية اللون وحب الشباب والبثور يملآن وجهي قذرة .. ملابسي وممزقة والقمل يتناقل في شعري الذي أصبح أشبه بقطعة نتنة من الألياف .. أرجوكم لا تستغربوا من وصفي هذا ولا تضحكوا علي .. إنها الحقيقة التي كنت أحياها وهو الواقع المرير الذي كنت أعيشه في الغرفة الوحيدة التي كنت أسكنها أنا وأبي وأمي وعشرة أخوة وأخوات ..كنت أرى الناس الذين يعيشون في مدينتنا الصغيرة ينقسمون إلى قسمين .. قسم يأكل من صناديق الزبالة حتى يعيش وقسم آخر يلقي بالفضلات حتى يعيش منها الآخرون !!
كنت أحقد على أبي وأمي لأنهما أنجباني وجعلاني أشاركهما هذه الحياة التي من الظلم حقاً أن نطلق عليها اسم حياة لأنها كان بكل صراحة أشبه بالموت تحت الأقدام ..!!
لم تكن للأسف عيشة آدميين بل كانت والحق يقال أشبه بعيشة الحيوانات وكنا بالفعل كالحيوانات ونحن نحني رؤوسنا لأسيادنا ونرضى بأن نكون تحت أقدامهم كأعقاب السجائر يطئونها بعد أن يمتصون دمائها وبعد أن يشبعونها ضرباً بالأقدام وتقريعاً بالكلام .. كانت السيدة التي انتقلت للعمل في بيتها تضربني بقدمها وأنا ابنة الخمسة عشر ربيعاً لأنها كانت تقول: لا أريد أن ألوث يدي بك أيتها الحقيرة الوضيعة الوسخة !!
وكل هذا من أجل بضعة دنانير تعطيها لوالدي بعد أن تمسح بكرامة ابنته –أنا- حضيض الأرض وبعد أن تذيقها ألواناً من الويل والعذاب والقهر والكمد !!
كانت تمنع عني الطعام والشراب وتحبسني في الحمام لساعات إذا اكتشفت ذرة من السواد على الرخام الذي كنت أمسحه بالماء وبدموع من عيني التي كانت تذرف على الأرض من شدة القهر وأنا أدعو الله سبحانه وتعالى أن يخلصني من هذه الحياة لأن الموت أرحم بكثير من الذل والهوان الذي كنت أتلقاه على يد هذه المرأة التي لا تتعامل معي على أنني إنسان من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس ..لم تكن تدرك أن العصا الغليظة المقوسة التي كانت تنزل على ظهري كانت تزيدني قوة لأنها كانت ترسخ لدي الشعور بأنني بهيمة والبهيمة ستتحمل كافة أنواع الضرب والعذاب !!
فاض بي الكيل ولم أعد أستحمل .. هذه ليست حياة .. إنها انتحار بطيء وطريق النهاية الحتمية له هو الموت .. لذلك قررت الهروب .. سأعود إلى منزل أبي الذي سيضربني بكل تأكيد عندما يعلم أنني قد هربت من منزل سيدتي .. أقصد سجانتي .. لكنني لن أخرج قبل أنا آخذ حقي منها .. فلتحاول أن تلمسني بعصاها وسترى ماذا سأفعل بها !!
جلست على الأرض لأرتاح فالتعب يكاد يقتلني والعناء يمزق أوصالي .. جاءتني وأخذت تشتمني وتسب أبي وأمي إلى أن لكزتني برجلها ورفعت عصاها لتضربني كما تعودت لكنني في هذه المرة ليست البهيمة التي ستسكت وستصمت لتؤدي عملها والدموع تترقرق في عينيها .. لا وألف لا .. قمت ودفعتها فسقطت على الأرض وأمسكت العصا وأخذت أضرب وأضرب وأضرب ومع كل ضربة كنت أقول لها .. ذوقي طعم العذاب أيتها الظالمة .. ذوقي حلاوة العصا يا أيتها المستبدة الطاغية .. اشربي من كأس الهوان والذل والقهر الذي كنت أتجرعه في كل ساعة على يديك أيتها الخسيسة .. آه صدقوني شعرت بشيء من الراحة وأنا أضربها وأخرج قليلاً مما في داخلي من الحقد والكراهية التي أحملها في جوفي نحو هذه السيدة الظالمة ونحو الزمن الغادر الذي لم يجعلني أتذوق طعم السعادة في يوم من الأيام .. أخذت أضربها بقوة وبقسوة ولسان حالي يقول : للصبر حدود وها هو صبري ينفجر كالبركان فيك يا أيتها القاسية الجبارة !!
تركتها وهي كالكلب الذليل الذي يتلوى من الألم وأخذت أجري في الطرقات بلا هدف وبلا تحديد إلى أن وصلت إلى أحد الأرصفة وجلست أبكي من القهر ومن الحياة التي لا ترحم ..توقفت على الشارع القريب سيارة فخمة سوداء اللون لينزل منها رجل عجوز لحيته بيضاء كالحليب ، نظاراته سميكة جداً ، وظهره مقوس كالعصا التي كانت سيدتي تضربني بها وكان يمشي ببطء شديد نحوي وهو مكبكب الرأس وحاني الظهر فكان يذكرني بوالدي وهو يعود في المساء وعلى ظهره اللوح الخشبي الذي يضع الخبز عليه ليبيعه للناس !!
اقترب مني أكثر وأكثر وأنا ألمح الطيبة في وجهه وأرى السماحة في جبينه وأنظر إلى الحنان في أبهى صوره وقد تجسد في عينيه الصغيرتين من خلف النظارات .. جلس بجانبي وبكل طيبة سألني .. ماذا بك يا ابنتي ؟ لماذا تبكين أيتها الجميلة ؟ هل أنت بحاجة إلى المساعدة يا صغيرتي ؟
كنت أشبه بالخرساء التي لا تستطيع الكلام .. كانت المسافة بين قلبي الكسير وشفتي أقرب ما تكون إلى المسافة بين السماء والأرض .. كان كل ما أفعله هو البكاء بحرارة والنحيب بصوت عال والأنين الذي كان يندفع بقوة من أعماقي مع كل سؤال يسأله .. أخذني برفق من يدي فوجدت نفسي أتبعه لا إراديا لأركب معه السيارة الفخمة وأنا لا أعلم إلى أين سيذهب بي هذا الرجل العجوز !!
طوال الطريق وأنا أبكي على صدره في المقعد الخلفي من السيارة إلى أن توقفت السيارة أمام منزله .. كان أشبه بالقصر الكبير الذي تحيط به الحدائق والبساتين والذي كنت أسمع عنه في الحكايات التي كانت ترويها جدتي التي ماتت وهي ساجدة لله سبحانه وتعالى في أحد الليالي التي لم يظهر فيها القمر !!
أدخلني منزله وأمر الخادمات أن يأخذنني فقاموا بتغسيلي وتزييني وإطعامي وألبسوني ثياباً لم أكن أحلم أنني سألمسها بيدي في يوم من الأيام .. نظرت إلى وجهي في المرآة فلم أصدق أنني بهذا الجمال وأنني بهذه النظافة .. يالله لا أصدق .. إنني أبدو كالأميرات الجميلات .. هل يا ترى ستعرفني أمي إذا رأتني ؟ لا أعتقد ذلك .. يااااه كل شيء جميل .. الآن فقط عرفت ما هو الفرق بين الجنة والنار وما هو الفرق بين الإنسان والحيوان !!
فهمت من خلال حديث الخادمات أنه سيتزوجني وفعلا صارحني برغبته ولم أرفض هذا العرض المغري لأنني سأكون مجنونة إذا رفست النعمة بقدمي وإذا أدرت ظهري لأبواب الجنة التي سأحيا بها والتي ستكون خير عوض عن أيام الفقر والبؤس والشقاء التي عشتها وأنا أتمرغ في الوحل الذي يختلط فيه القهر مع الفقر مع الحرمان !! أخيراً سأودع الفقر والجوع والحرمان إلى الأبد .. وبالفعل تزوجني وأنا صبية لا أعرف ما معنى الزواج ولا أدرك ماذا يمثل الرجل بالنسبة للمرأة.. ولا أنكر أنه كان يعاملني بكل الطيب والمحبة والتقدير .. ولكن أمثالي لم يكتب لهم السعادة في حياتهم لذلك مات زوجي بعد شهر واحد فقط من زواجنا لأجد نفسي أعاود مرة أخرى إلى البكاء والحزن على أحنى يد مسحت على جبيني وعلى أرق كف لملمت دموعي وعبراتي … لكنني استيقظت فجأة لأجد نفسي الوريثة الوحيدة لكل ما قام هذا العجوز بجمعه طوال حياته .. أي أنني أصبحت غنية ..نعم أصبحت أملك ثروة كبيرة ..أخيراً أصبحت سيدة هذا القصر وأصبح لدي الخدم والحشم .. وأصبحت أملك العقارات والسيارات والأموال … هل أنا في حلم ؟؟ … هل هو الواقع ؟؟ … هل ما أعيشه الآن هو جنون بسبب كل ما تعرضت له من عذاب وقهر وحرمان ؟؟!! ….. ياه إنني لا أصدق !!
سألبس أجمل الثياب وسأتزين بأجمل الحلي والمجوهرات وسأكون الأميرة التي ترتع في النعيم وتسبح في بحور العز والرخاء وستكون أيامي كلها أفراح ومسرات وأعياد .. أخيراً سأجلب أمي وأبي وأخوتي ليعيشوا معي في هذا النعيم .. سأعوضهم عن كل ما فات وسنعيش في راحة بقية أيام العمر ..
ذهبت إلى بيتنا القديم لأدق الباب فخرجت لي امرأة فسألتها عن أهلي لتصعقني كلماتها وتخبرني بأن كل أفراد أسرتي ماتوا بعد أن انفجرت أنبوبة الغاز في البيت ليحترق الجميع ويتحول أفراد أسرتي إلى قطع من اللحم المحترق !!
لم تحتملني قدماي .. لم أستطع أن أقف عليهما .. كانت الصدمة أقوى من أن تستحملها امرأة ضعيفة مثلي لذلك سقطت على الأرض وقد أغمي علي ليحملني السائق وسكان الحي إلى المستشفى وأنا أعاني من حالة من الهيستيريا وعدم التصديق .. إنها صدمة عصبية .. لا لا فلنسميها جنوناً .. نعم أنا مجنونة ..لقد أصبحت الآن بلا عقل ..و ها أنا الآن أرقد في مستشفى الأمراض النفسية على أمل أن يعود لي عقلي الذي فقدته في قصة كان عنوانها مأساة امرأة !!
----------------
تقبلو تحياتي اخوكم
د\احمد