عرض مشاركة مفردة
أبو يحى أبو يحى غير متصل    
عضو نشيط جداً  
المشاركات: 361
#12  

ثريا الشهري - الشرق الاوسط

بنات الرياض: تشخيص هادئ للحالة

تعودنا أن نتلقى أصداء تاريخنا وواقعنا من خلال روايات وأقاصيص، إما مغرقة في رومانسيتها أو مفجعة في بكائياتها، بأسلوب سردي لا يرقى إلى مستوى التحليل والإضاءة المستقبلية، فلا عجب أن ترى نقدنا للعمل ـ أياً كان ـ إلا ويتسع للإعجاب أوالاستنكار، من دون أن يتجه هذا العقل الناقد للنظرة المتزنة التي تحاول أن تفهم قبل إصدار حكمها، حتى أننا استمعنا إلى طه حسين في خطابه عن الشعراء، ولم نقرؤه عندما حدثنا عن ابن خلدون، فكتاباته عن تاريخ صدر الإسلام على ضوء قوانين العلوم الاجتماعية في «الفتنة الكبرى» و«علي وبنوه» ظلت الأقل ذيوعاً بين الجمهور العربي، لأنها خاطبته بلغة عقلية لم يألفها في تمثله لتاريخه المعتاد عليه. فالنهضة العربية الحديثة لم تتجه إلى إحياء فكرها الاجتماعي المبدع من خلال إنتاجها، بقدر ما عملت في مجال الإحياء الشعري واللغوي لأجل الإحياء نفسه، مما أصاب الثقافة العربية المعاصرة بالترهل البلاغي، وأفقدها الحس النقدي القادر على الاستشراف في عصر حافل بالتحديات، هذا، بالرغم من عمق الأثر الاجتماعي، الذي لا ننكره لأدب نجيب محفوظ والشرقاوي، وغيرهما من أقطاب الرواية الاجتماعية التحليلية، إلا أنه تيار تفسيري لم يتمكن من الاستمرار، بل وتحولت أعماله وعلى أيدي أصحابه إلى الرمزية واللامعقول في أغلب الأحيان.

هذه المقدمة أعتبرها ضرورية للدخول في موضوع اليوم، وهو العمل الأدبي السعودي الذي حمل عنوان «بنات الرياض»، وأثار ضجة ما كان لها أن تفور لولا الافتقار إلى الوجهة التحليلية الاجتماعية، التي لم تطبع العقل العربي، في معالجته لكافة أموره، بما فيها النتاج الأدبي والفني والثقافي عموماً، بحيث يكتب الروائي قصته وهو ملم بأصولها، ويرسم الفنان لوحته وهو مستوعب لماهيتها، ويقصد الناقد مكتبه وهو مدرك لقوانين نقده، فماذا نعني بكلامنا؟

كثر اللغط حول «بنات الرياض» بأسلوبين إما مع أو ضد، فمن مؤيد بلا شروط، إلى معارض بكل الشروط، وكلما زاد حماس فريق، أثار بتفاعله حفيظة الفريق الثاني في الرد عليه، ولا أظن أن أي من الطرفين قد أعطى لنفسه الفرصة اللازمة لهضم حملته، حتى أن البعض لم يقرأ العمل، ولكن وبناء على خلفية شخصية منه، فقد قرر مسبقاً إلى أي الطابورين سيكون انتماؤه، فمن صرح بأنه عمل لا يتفق مع تعاليم الدين وعادات البيئة، وجد من ورائه صف من المهللين، ومن جزم بأنه إنتاج حداثي يناقش ما وراء الأبواب لم يغلب فيمن يناصروه، والسؤال: لم كل هذا التحامل والتطرف من كلا الجانبين؟ فلو تم التعامل مع هذا العمل ومنذ لحظة ظهوره بنقد موضوعي، ستتضح نقاط قوته من ضعفه، إيجابياته من سلبياته، فيقيّم على إثرها على أي الرفوف الأدبية ستنتهي رحلته، ثم تطوى صفحته في انتظار القادم من بعده.

وهنا يأتي معنى كلامي بأنها زوبعة مصطنعة من الأساس ما كان لها أن تثار، وإن حدث فما كان لها أن تتفاقم لو أن تربيتنا ومنذ البيت، الذي خرجنا منه قبل الشارع والمجتمع ككل، قد اتسمت قولاً وتطبيقاً بثقافة الحوار والاحتواء الناضج لما يجد من حولنا.

فإذا انتقلنا إلى عدسة أقرب في تحليل العمل الذي نحن بصدده، لعزّينا أمر العاصفة التي نسبت إليه إلى سبب آخر ومهم لا يمكن إغفاله، ويكمن في تجسيده لصورة تحكي عن «بعض» من فئات المجتمع السعودي، في نقل حي لم يتدخل فيه الخيال الإبداعي، راق لجمهوره وكأنه يتابع مشاهداً لكاميرا خفية في أحد الزوايا، فكانت اللقطات المسلية أكثر ما جذب القارئ أو أكثر ما استفزه، فالأول يجوز أنه قد وجد نفسه في الشخصيات التي أمامه على الورق، والثاني إما أنه كان يعلم بهذا الوجود ولا يريد الإعلان عنه، أو جاهل بمثل هذه الحياة، وتحت سقف بلاده فلا يكون إعلانه الحرب من باب الإدعاء أبداً، ومع هذا، ما كان لهذا السرد الحكواتي أن يأخذ الصدى ذاته، لو كان يتحرك بآلته في غير المجتمع السعودي، بل وما كان للقنوات الفضائية أن تتسابق لاستضافة صاحبه لولا جنسيته السعودية ـ الأنثوية أولاً، والمضمون السعودي ثانياً، فقد حصل وتناول غير السعوديين المجتمع السعودي في أعمالهم، فهل يتذكر الانتشار الإعلامي أسماءهم بحدة المقدار ذاته!

غير أن هناك عوامل أخرى جانبية، ساهمت في توسع هذا المد، وأولها طبيعة المجتمع الاستهلاكية غير الإنتاجية، فنوعية الثقافة السائدة قد تعودت على استعدادها الجاهز لملء ساحة فراغها بأمور هامشية مكملة لشغل أوقاتها، ففي حين لا يتحمل أفراد المجتمعات المنتجة تكلفة ضياع يومهم فيما لا يخصهم ولا يعود عليهم بالفائدة، تجد المجتمعات المستهلكة لا يستنهضها شيء قدر الفضول ودس الأنف في خصوصيات الغير وخلواتهم، فهل يكون أن «بنات الرياض» قد أشبعت هذا الجانب العبثي في الشخصية المستهلكة! فإذا أخذنا نفساً أعمق فقد نتذكر شيئاً عن طبعة الاستهتار بمواهب الفرد العربي، التي تتوزع ممارستها وبنسب متفاوتة بين مختلف أرجاء العالم العربي، فهذا الإهمال الذي يميت ومنذ الصغر ميولا فطرية لموهبة لا تمنح التبني الذي تستحق، يخلق لدى المرء نوعا من الغضب الداخلي والغيرة الدفينة، التي تهدد بالهجوم ضد الأوفر منه حظاً، وإن كان انفجارا مقنعاً.

نأتي الآن إلى مسألة «التأريخ»، وإن كانت تجربة «بنات الرياض» مادة صالحة لأرشيفه، البدايات دائماً ما تحسب لصاحب العمل بلا شك، ولكن الجوهر هو الذي يفرض خلود الإنتاج، فلا يبقى في ذاكرة التراث سوى ما يستنهض العقل، ويأتي بابتكار يشير بخطورته إلى التغير الذي ينادي به، وعليه، يكون من الإجحاف بـ«بنات الرياض» بلغتها البسيطة وثغرات بنائها، تحميلها هذه الإضافة العليا في تركيب الكيان الإنساني الكبير، والأولى أن نقف منها عند حدود الانضباط المتحضر في تقبلها أو رفضها.

أبو يحى غير متصل قديم 29-03-2006 , 04:11 PM    الرد مع إقتباس