أولاً .. جزاك الله خيراً ..
ثانياً .. اللهم آمين .. وفيكم بارك الله ..
وثالثاً .. اسمح لي أن أنقل هديتك القيمة إلى هنا
( حوار طويل ولكنه جميل وقيم بحق )
شفافية الرسول التي تستنطق الجماد هي منهاج الشاعر المسلم ..
طَرَحَ الأسئلة على نفسه وعلى القارى فتلقفناها وأعدنا طرحها عليه..
ووجد الإجابات فوجدناها معه وحاورناه بها..
ولأنه واضح بشكل يزعج بعض من حوله- كما يقول- ولأنه يتأثر بآلام المسلمين في الهند
ويبكي لبكاء اللاجئين في فلسطين.
استطعنا أن نقطع المسافة إلى قلبه بيسر وسهولة ونحاوره بلغة الشعر التي هي نبض القلب..
فإليكم إجابات.. بل نبضات قلب الشاعر الدكتور عبدالرحمن بن صالح العشماوي.
تقول:
"أناطفل على باب الأماني يدعو ينتظر"
في شعرك تخلى الطفل عن صفات الطفولة وأبرزها الاندفاع والعجلة.. حدثنا عن الطفل الذي في أعماقك وهل أنت نزعت منه طفولته أم هو الذي أتاح الفضاء لأجنحة الشاعر؟
سبق أن قلت:
"من أنت تسألني فقلت لها:
جسد وروح
أنا شاعر يشدو
ويقتل يأسه أمل فسيح
ويرى الجمال فينتشي
لكنه لا يستبيح
أنا ذلك الإنسان يسري
في تواضعه الطموح"
الطفل الذي في داخلي نشأ في قرية على قمة جبل تسمى عراء وتفسيري الذي لم أجد له وثيقة في القرية أنها سمّيت بذلك لأنها تُعري هامتها للسحاب وللسماء فهي في أعلى قمة تقريباً في جنوب المملكة في منطقة الباحة.
الطفل نشأ في أسرة أرضعته مع حليب الأم معنى سماحة الإسلام.. وعظمة الإسلام.. ومعنى أن يحمل الإنسان هم أمته وهم دينه أن يحمل الآمال والآلام ..
لا أبتعد عن الحقيقة إن قلت إن جدي لأمي- وهو كان مؤذن القرية- قد أنشأ في أعماق الطفل- وهو ما زال يدرج في ملاعب الطفولة- إحساساً بالأمة بكاملها..
لم يأت ذلك من فراغ.. فجدي رغم أميته كان ذا عناية كبيرة بالقرآن والسنة وبأحوال المسلمين وقد حفظت عنه الكثير من الأدعية والأحاديث والأذكار.
وكان جدي على صلة قوية بوالدي قبل أن يتزوج والدتي.. ووالدي الشيخ صالح العشماوي- رحمه الله- كان يدرّس بالحرم المكي الشريف وكان له كرسي على يمين الداخل من باب السلام يلقي فيه دروساً في الدين واللغة وكان شاعراً فقيهاً ومن شعره- يرحمه الله-:
يا من يروم محبة العدنان
ليفوز يوم الحشر بالغفران
كن للنبي متابعاً في فعله
واعمل بما جاء في القرآن
وله الكثير من القصائد الوعظية التي تمتلئ بروح الداعية الفقيه..
هنا نشأ الطفل وغُرس في أعماقه الإحساس بالأمة وبالوطن منذ أن كتب أول أبياته وهو في الصف السادس الابتدائي (يا عراء هللي وكبري.. إن هذي السحب "عيّت" "تمطرِ").
وهي أبيات غابت عنها بعض الأصول ولم يغب عنها الإحساسِ بهمِ الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها.
منذ ذلك الحين كانت دعوات الجد للطفل بأن يكون له كلمة في التعبير عن هذه الأمة التي فقدت مكانها العظيم فهذا هو الطفل الذي تسألني عنه:
أنا ذلك الإنسان يسري
في تواضعه الطموح
تقول:
" اكتب الشعر لأن الشعر من قلبي وقلبي فيه حزن وشجن"
البعض يكتب الشعر بالعقل وأنت حسمت خيارك وقررت الكتابة بالقلب
حدثنا عن تجربة الكتابة بالقلب ..
الكتابة بالقلب .. نزف.. ولهذا أنا لي قصيدة عنوانها من يداويني من الشعر لأن الشعر عندما بدأت أكتبه كنت أنظر إلى أفق الشعر بنظرةٍ تختلف عن نظرتي إليه بعد أن غاصت ريشة هذا الشعر في أعماق قلبي، كنت أظنه دوحة في ظلها أبترد- كما قلت في تلك القصيدة-مرت الأيام فوجدت أنه:
شتلة من خاطري تعتضد
هنا أحسست منذ فترة مبكرة وأنا في المرحلة الثانوية في معهد الباحة العلمي وألقيت قصيدة في حفل تلك السنة وكان مطلع القصيدة:
بالدين والعلم تعلو راية الأمم
ويرتقي شأنها في عالم القيم
فالدين نص إذ طبقته خضعت
لك البرية من عرب ومن عجم
كل الضلالات أقدام ومنهجنا
رأس، فكيف نسوي الرأس بالقدم؟!
عندما ألقيت هذه القصيدة، أذكر أن بعض أساتذتي ومنهم الدكتور حسن الشاعر والدكتور مصطفى مسلم والأستاذ صدقي البيك شجعوني كثيراً وقد قال لي وقتها الدكتور حسن الشاعر: (يا عبدالرحمن، هذه القصيدة قوية وفيها مشاعر كبيرة فإذا كنت قد أخذتها من كتاب أو مجلة فاعلم أن هذا سيكشف مستقبلاً) وكأنه تعاظم أن تكون قصيدة بهذا المستوى من إبداع طالب في هذه السن فقلت له: يا أستاذ أنا لم أستطع أن أنام حتى كتبت هذه القصيدة.. فهي لي ومن قلبي، فدعا لي وقال: أرجو أن تكون كذلك ..
فإن كان سيطلع على هذا اللقاء فأنا أقول له: هي كذلك.
فالشعر يخرج من القلب والمعاناة في كتابته ليست سهلة فهو لا يخرج من القلب خروجاً هيناً يسيراً ولكنه ينتزع بعنف وبنزف وهو كما قلت شتلة من خاطري تعتضد.
وهذا ينطبق على كل كلمة وكل قصيدة.. فالشعر بهذا يشكل عذاباً.
تقول:
"ولماذا تطلقين السهم نحوي
سهمك القاتل لا يقتلني وحدي
فهل تنتحرين؟"
أنت وساكنة القلب ضدان ولكنكما متوحدان.
حدثنا عن جدلية الضدية والتوحد بين الشاعر وساكنة القلب
أنا لي بيت من الشعر في قصيدة أخرى أقول فيها:"وكم ألم ممن تحب تولدا"
فعلاقة الحب كما أن لها جوانب مضيئة تسعد القلب فإن لها جوانب معتمة تكون سبباً في الألم..
خاصة عندما تشعر في بعض الأحيان أن هنالك بعض الحواجز التي تقف بينك وبين من تحب وهي إما أن تكون حواجز مصطنعة وإما أن تكون منطلقة من أعماق أنفسنا.
تأتي مثل هذه اللحظات فينبت الشعر في القلب ثم تخرج ثماره في مثل هذه القصيدة.. كنت أقول لها- وهي كثيراً ما تعاتبني.. لماذا هذا الألم والشجى الذي يسيطر على شعرك مع أنني أراك باسم الثغر..
فأنا ولله الحمد عندما ألتقي بالأحباب أمثالكم تشيع بيني وبينهم بسمة الرضا.. فهل يعقل كما سألتني- ساكنة القلب- أن أختزل هذا الألم الذي يبرز في القصيدة ولا يبرز في الجوانب الأخرى من حياتي.. فكنت أجيبها بأن الشعر يستخرج هذا الألم من قلبي وأنا أحاول أن أغطي الجانب الآخر بالبسمة والمودة. لهذا أقول في إحدى القصائد:
كم قائل حين يلقاني وفي شفتي
طيف ابتسام وفي وجهي تباشير
هذا الذي نفسه بالبشر عامرة
هذا الذي قلبه بالصفوِ معمور
يقولها ما دري عما أكابده
من الجراح فمطوي ومنشور
ففي النفس منبع كبير للألم وإن لم أعترف به فقد باح به الشعر.. مصدر هذا الألم هو حالة الأمة لذلك فأنا لا أستطيع أن أتخلص منه وأقول لساكنة القلب عندما تكثر من معاتبتي .. لا تعاتبي ولا تهجري لأنك إن فعلتِ ذلك لا تقتليني وحدي وإنما تنتحرين أنتِ معي لأنني أعلم أنها تحمل لي من مشاعر الحب مثل ما أحمل لها وأكثر فإذا أقدمتِ على العتاب المستمر أو الهجر فإنها ستقتل نفسها قبل أن تقتلني.
تقول:
"من مزق شمعة بسمتها؟
ولماذا انقلبت شفتاها؟
من مزق فضل عباءتها وبثوب الإغراء كساها؟
من أحرق قمح بيادرها؟"
في هذه القصيدة وفي غيرها لاحظت أن شعرك ساحة كبيرة لعلامات الاستفهام، فهل هي أسئلة لمجرد الأسئلة أم لنبش الإجابات؟
الأسئلة بلا شك تكون عبثاً إذا لم تكن نبشاً لإجابة، عندما أكتب بعض القصائد مثل هذه القصيدة أشعر أن هناك غابات من الأسئلة تحيط بي من كل مكان فأضطر أن أطرح هذه الأسئلة بدوري على القراء؛ لأن كثيراً من القراء لديهم القدرة على الإجابة على بعض الأسئلة التي لا إجابة لها عندي.
فلا شك أن السؤال الشعري الذي يطلقه الشاعر هو سؤال لاستنبات الإجابات وربما يكون سؤال لتقرير بعض الأمور التي يريدها الشاعر..
فكما تعلم أن للاستفهام في لغتنا العربية معان كثيرة.. يخرج السؤال عن المعنى المراد به إلى معان أخرى.. قد يكون منها التقرير.. أو التهديد أو التعجب وقد يكون منها الإجابة داخل السؤال.. وفي القرآن الكريم فهل أنتم منتهون هذا السؤال خرج عن معناه الحقيقي إلى معنى مجازي معروف ألا وهو "انتهوا" يعني الأمر بالانتهاء.. وقس على هذا ما تزخر به بلاغتنا العربية فلا شك أن الأسئلة في شعري تأتي لاستثارة الإجابات بعضها أستطيع أن أقدمه أنا وبعضها أتركه للمتلقي.
تقول:
"بعثت إليك الشعر يشرق لفظه وضوحاً
فما في قاع شعري رواسب"
هل هذا هو مسلكك الفني؟
وما رأيك في الرمز والغموض وقصيدة اللاموضوع أو مايسمى بالحالة الشعرية؟
أنا أرى أن الوضوح يحمل من الفنيات ما يحمله الغموض إن لم يكن أكثر.. فالشاعر يتجه إلى الغموض في حالات متعددة.. إما أن يكون تحرزاً من واقع اجتماعي عام وإما أن يكون خائفاً من واقع سياسي وهما حالتان ينفع فيها الرمز والغموض ويكون لهما دورهما في تحقيق المتعة الأدبية..
وفي موضوع الرمز والغموض أمامنا قضيتان.. الرمز والغموض الموحي، وهذ عمل أدبي فني فذ جميل وموجود في أدبنا العربي وموجود في شعري لكنه في دائرة الوضوح التي تكتنف شعري.. وعندنا الغموض والرمز المغرق: الذي يعتمده السرياليون في زماننا هذا والرمزيون الغربيون الذين غرقوا في الرمزية وتابعهم بعض الشعراء العرب وخاصة في مدرسة الحداثة في زوايا منها:
هذا الغموض ليس له مكان عندنا لأسباب كثيرة من أهمها أن لكل كلمة أدبية رسالة يجب أن تؤديها وتصل بها إلى الناس فإن لم تصل هذه الرسالة فقد الأدب معنى وجوده.
بالنسبة لي الوضوح جزء من شخصيتي.. وضوح قد يصل إلى درجة الإزعاج لبعض من حولي ولكنني أستمتع بهذا الوضوح.. فأنا والوضوح متلازمان منذ أن عرفت نفسي ولعل هذا راجع للنشأة في قرية عراء التي حدثتكم عنها بكل ما فيها من وضوح.
ثم إن الذي يحمل قيماً ومبادئ جميلة مثل قيمنا الإسلامية التي نستمدها من كتاب الله وسنة نبيه { لا يملك إلا أن يكون واضحاً.
نأتي في داخل هذا الوضوح إلى قضية الأدب وهناك من يتهم شعري من المعاصرين خاصة من المدارس المخالفة لمدرستنا الإسلامية بالوضوح والمباشرة.
أنا أقول: أن الوضوح والمباشرة يمكن أن يكونا عيبين في الشعر إذا خرجت القصيدة كالكلام العادي وضوحاً ومباشرة وأصبحت ليست لها قيمة فنياً وخلت من الصور الفنية والبلاغية الجميلة ومن الخيال، والإيقاع المتناسب مع الخيال، والعاطفة الجياشة.. وهذه مباشرة نتفق جميعاً أنها تخرج الشعر من دائرة الشعر.. لكن الوضوح الذي يحمل صور بلاغية هو الوضوح الأرقى.
الجانب الآخر أن هذا الوضوح له مثل ضخم هو مظلة الإبداع في أدبنا العربي كله وهو القرآن الكريم فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه بيّن وأنه واضح ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين فبيان القرآن ووضوحه لا ينفيان عنه صفة البلاغة التي أعجزت العرب جميعاً عن أن يأتوا بمثله فالوضوح في حد ذاته عمل فني إذا توافرت له الفنيات التي ذكرتها آنفاً.
وقد كنت أشارك في أحد الملتقيات الشعرية وكانت المشاركة واضحة التأثير في الجمهور.. وكان هناك من ألقى مشاركة من الشعر الغامض فما لقيت تأثيراً.. فقال لي صاحب هذه المشاركة: لا يغرك ما رأيت من تأثر الحاضرين بما ألقيت فذلك راجع إلى جودة الإلقاء..
قلت: يا أخي إذا كنت تريد أن أحكم على نحو خمسة آلاف شخص كانوا موجودين في معرض الكتاب في القاهرة عام 1411 أنهم لا يفقهون وأنهم خُدعوا بالإلقاء فنحن لا نستطيع أن نصدقك.
تقول:
"عين ولام ثم ميم
ألف ونون .. ياء مشددة وهاء
من هاهنا ابتدأ العناء"
كيف يمكن أن نقاوم هذا العناء؟
وكيف يمكن أن نطرح الإسلام كصيغة عالمية في مواجهة هذا العناء؟
الإجابة في آخر هذه القصيدة التي ذكرتها- وعنوانها (حروف متقطعة) في آخر القصيدة قلت:
"قاف و راء
ألف لها مد ونون
قرآنكم يا مسلمون"
لقد ذكرت القرآن بصفته علاجاً لهذا الداء الذي استشرى في الأمة ففي بداية القصيدة حاولت أن أصور الآثار السلبية لهذا التوجه العلماني في عالمنا الإسلامي- الذي أبعد كثيراً من المسلمين عن صفاء عقيدتهم وصفاء فكرهم..
وفي القصيدة أسترسل في بيان هذا العناء ثم بعد ذلك في آخر القصيدة وصلت إلى أن القرآن هو الشفاء..
أما كيف نطرح الإسلام كصيغة عالمية في مواجهة العلمانية؟
فأنا كتبت مقالاً لزاويتي في جريدة الجزيرة عن مكتب توعية الجاليات في حائل وعن وسائلة التي يستخدمها في الدعوة وهي وسائل تتسم بحسن الخطاب وسلاسة الكلمة وتؤصل المعلومة الشرعية الإسلامية بشكل هادئ رزين لبيان محاسن الإسلام العظيمة ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وهذه الوسائل هي التي ترغب الناس في ديننا الإسلامي الحنيف.
إذا أردنا أن ننتقل إلى الأدب فأنا أقول أن الأديب إذا استطاع أن يتشبع بمعاني الإسلام وأن يدرك أبعاد هذه المعاني- (مازحاً)..
: ونحن نجري اللقاء لمجلة أبعاد- فإنني أؤكد أنه يستطيع أن يقدم التعبير الأدبي المشرق الذي يصل به إلى الآخرين وأنا قد جربت في أكثر من لقاء أدبي شعري داخل المملكة وخارجها هذا الجانب ورأيت كثيراً من الأساتذة الذين يختلفون أحياناً معي في الفكر والمنهج وجدتهم أحياناً يتوقفون عند بعض الكلمات والصور التي تطرح في القصائد عن الإسلام، نحن مسؤولون أن نتشبع في مشاعرنا وقلوبنا وفكرنا بديننا وبمعاني ديننا وتعليماته لنخرج ذلك أدباً راقياً ذا أسلوب جميل يسهم في توجيه الآخرين إلى هذه الثروة العظيمة وهذه المناهل الثرة التي يفقدها الكثير من الناس في هذا العالم.. وأمامنا أيضاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
فنحن في الأدب نستطيع أن نوصل هذا المعنى الذي أنت ذكرته في هذه القصيدة وغيرها التي تنقل الإسلام إلى الآخرين:
أنا مسلم للكون في خلدي
معنيً فلا يأس ولا وجل
درب الهدى دربي إذا اختلفت
في عين أهل الحيرة السبل
عيني إلى العلياء ناظرة
وفمي بذكر الله يبتهل
هذه المعاني عندما نقولها للناس بهذه الصورة نستطيع أن نوصل إلى الناس ما يحتاجون إليه.. وأنا دائماً أقول: الإنسان المعاصر في أمس الحاجة إلينا وإلى ديننا:
يا مسلم الخير أنت النبع في زمنٍ
ضاعت معالمه واستشرت الفتن
نحن عندنا نبع كبير إذا لم نقدمه للناس أثِمْنا، وحتى من الناحية الأخلاقية والتعامل الحضاري فالإنسان الذي يملك الماء ويمنعه عن إنسان ظمآن يعدّ إنساناً قاسي القلب من الناحية المدنية..
فكيف بنا ونحن نحمل هذا النبع الصافي الذي يمكن أن ترتوي به القلوب الظمأى في هذا العالم المضطرب المائج بالاتجاهات المتضاربة والانحراف الخلقي والفكري الذي نراه أمام أعيننا؟!
تقول:
"فأبدى اشتياقاً لهذا الحديث
وزاد ائتلاقاً يسر النظر"
هذا الكلام عن القمر
وتقول:
"أوما سمعتم ما تقول مآذني
أوما قرأتم في ملامح صخرتي"
وهذا الكلام عن المسجد الأقصى
وتقول:
"أسألكم عن أجمل أنثى
رفعت للخالق كفيّها"
"في طريق الحزن واجهت فتاةً مسلمة
تحمل الطفل الذي يحمل أعلى الأوسمة"
وهذا الكلام عن القدس والأقصى
لقد جعلت القدس أنثى
وفتاة مسلمة.. والأقصى طفلها
وأنطقت التاريخ على لسان القمر
وأضفيت عليهم جميعاً ملامح إنسانية
حدثنا عن أنسنة الأشياء داخل القصيدة
أخي الكريم.. كل شيء في هذا الوجود له حس حتى الجمادات لها حس.. وأنا كنت أطلع قبل فترة على بعض البحوث فوجدت أن بعض المصانع في كوريا تعمل منذ سنوات على اكتشاف مواطن الحس في الجماد نحن متأكدون أن في كل مخلوق في هذا الوجود قلباً يحس، ولهذا سمع الصحابة- رضوان الله عليهم- تسبيح الحصى في يد الرسول { سمع الصحابة- وهم شهود على ذلك- حنين الجذع عندما استبدل به رسول الله { منبره، رأى الصحابة شجرة تشق الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعود إلى مكانها..
هذه أشياء ثابتة في سيرة الرسول { .. الكون ينطق.. وأنا أعد الإنسان محروماً إذا لم يستطع أن يستوعب لغة الكون.. يشيع في شعري.. الحديث عن شجرة اللوز.. هذه اللوزة.. كلما ذهبت إلى مسقط رأسي أشعر أنها تتحدث إلى وتبوح.. الجبل الضخم الذي تقبع عليه قريتنا كلما ذهبت إليه أشعر أن الجبل يريد أن يحتضنني ويتحدث إلي، وإذا مررت في أزقة قريتنا القديمة وقد أصبحت جدرانها كالحوامل تؤذن بوضعٍ قريب بعد أن مر بها الزمن الطويل.. كأنما كل حجر في هذه الجدران يريد أن يبوح لي بشيء.
هذه الأشياء أنا أشعر أنها تنطق والشاعر إذا استطاع أن يتخيل ما في أعماق هذه الأشياء من حياه وحركة.. استطاع أن يستنطق الجماد.. كما حاولت أن أستنطقه بل إن عنترة بن شداد حينما قال "وشكا إلي بعبرة وتحمحم" أنا متأكد أنه كان يشعر أن حصانه أدهم كان يشكو إليه بعبرة وتحمحم.
أخبرني الأستاذ محمد عبدالله غنام.. وهو من التربويين الكبار في منطقة الباحة.. قال عندما كنت أجلس في فناء داري فإذا بعصفور يقع على أحد أغصان شجرة اللوز التي في نهاية الفناء.. يقول الأستاذ غنام.. والله لقد رأيته يتجه إلى القبلة ويكرر مجموعة من الأصداء الجميلة حتى إذا انتهى رأيته يطأطئ رأسه ثم يطير.. الوجود ينطق.. وإن من شيء إلا يسبح بحمده وكلمة إن من شيء نفي للعموم يعني أي شيء في هذا الكون يسبح بحمد الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان مع أبي بكر وعثمان وعمر على جبل أحد بالمدينة المنورة اهتز أحد.. فماذا قال الرسول {؟ قال: "اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
فأحد له حس وفي الحديث الصحيح عن النبي {: "أحدٌ جبل يحبنا ونحبه" ما قال نحبه فقط.. قال يحبنا ونحبه.
هذه الشفافية النبوية الكريمة التي تستنطق الجماد هي منهاج للشاعر المسلم.. وأنا حين أستنطق الجماد في شعري أنطلق من هنا وعندما أخاطب الأقصى أشعر أنني أخاطب طفلاً تحتضنه فلسطين الأم، والذي مع الأسف- كما أشرت في قصيدة ذات الوشاح- ضيعناه فأصبح ينتظر من يخلصه من براثن اليهود نسأل الله سبحانه وتعالى يهيئ لنا ذلك اليوم قريباً.
الأقصى والقدس ومحنة الاحتلال واللاجئين..مفردات تطرح نفسها بقوة في قصائدك ..
حدثنا عن هذا الجرح العربي النازف ..
والله يا أخي هذا جرح كبير.. وأنا في كل قصائدي لا أستطيع أن أتخلص من هيمنة هذه المأساة الكبيرة.. مع أنني لي أمل كبير جداً جداً في الله تعالى أنه سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الحق ولكن هذا الجرح الكامن في أعماقنا ينطلق من الأقصى في فلسطين ثم يتجه إلى أنحاء العالم الإسلامي، وقد قلت في بعض أبياتي:
إذا اشتكى مسلم في الهند أرقني
وإن بكى مسلم في الصين بكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجستي
وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
وفي العراق أكف المجد ترفعني
إلى بساتين عز ذات أفنان
ويسكن المسجد الأقصى وقبته
في حبه القلب أرعاه ويرعاني
أرى بخارى بلادي وهي نائية
وأستريح إلى ذكرى خراسان
شريعة الله لمت شملنا وبنت
لنا معالم إحسان وإيمان
الجرح كبير.. ولهذا لا أستطيع أن أتجاهل جرح أمتي الكبير لأننا إذا جسدنا حقيقة هذا الجرح وأحطناها بحلولنا الإسلامية العظيمة الموجودة في كتاب الله العظيم وسنة نبيه { استطعنا أن نقدم شيئاً لأمتنا.. ولقضايانا.. وأنا أنطلق من هذا المنطلق.. ولهذا لا يمكن أن أسمح لنفسي أو تسمح لي مشاعري أن أسترسل في كتابة قصائدي دون أن تبرز أمامي هامة القدس ولا أن تبرز أمامي محنة فلسطين ولا مآذن بابل التي هدمت ذات ليل ولا مآسي المسلمين في أفغانستان ومآسيهم في الشيشان ولا في كشمير.. لا أستطيع .. هذه حالة أمتنا.. لذلك أنا فرحت عندما رأيت الطفل الفلسطيني في فلسطين يقف شامخاً أمام صلف العدو وجبروته لأنه يمثل لنا أمل في هذا الوضع الراهن؛ لذلك فأنا أقول له:
من أنت؟..
وانبهرت حروفي
والتوى وجه السؤال
وأثبتتني الأسهم
من أنت؟
أوزان القصيدة لم تزل عطشى
وأفق الشاعرية معتم
من أنت؟
أشعر أن بئر مخاوفي
من بعدما شاهدت وجهك تردم
هذا الطفل أشعرني أن روح الأمل لا تزال حية.. وجرح فلسطين جرح يرافقنا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعالج هذا الجرح بفضله ومنّه بنصرة الإسلام والمسلمين.. ولكن لهذا النصر مقدمات وأسباب لابد منها فمشكلتنا نحن المسلمين أننا ما زلنا بعيدين عن الإمساك بطرف الحبل الذي تحل به القضية.. أنا أتكلم عن عامة المسلمين.. فهناك من سلك الطريق داخل فلسطين ويواجهون الموت وسأظل أنادي هذه الأمة إلى أن أفارق الحياة إلى هذا الطريق الذي تعالج به الجراح وتزول به الآلام بمشيئة الله تعالى.
تقول:
"ألست أنت الذي تشدو بأمتنا وتدّعي أنها مشدودة الطنب"
- ما هو دور الشاعر تجاه أزمات الأمة..؟
هل يلجأ إلى الصمت.. كما فعلت أمام استفهامات الأم القاسية المزلزلة؟ أم يشدو بهمتها أم يحاول استنهاض الهمم؟
أنا في نظري أن الشاعر الذي يعيش قضايا أمته لابد أن ينطق.. وقد يسكت الشعر.. كما قلت في إحدى قصائدي:
أحبس الشعر ولكن
هل تستطيع أن تحبس
القشة تيارات يم
لا يمكن.. ويجب على الشاعر أن يكون صادقاً إذا عبّر وأن يتجاوز إلى حد كبير حواجز الخوف- القلق أياً كانت المسألة لأن هناك حوادث لابد أن ينطق فيها.. لابد من أن تقول كلمة الحق.. ولابد من المعاناة في سبيل قول كلمة الحق.. نعم حتى الشاعر قد يستشرف أحياناً بعض أمور المستقبل من خلال استقراء الأحداث فينطق في وقت يلام فيه على ما قال ثم يأتي اليوم الذي يؤيَّدُ فيه كل ما قال ولهذا يجب على الشاعر أن يعمل حسه لأن الحس له قيمة كبيرة في تحديد المواقف والآثار ونتائج الأحداث.
فإذا انطلق الشاعر من حسه الصادق وكان على صلة صادقة بقضايا أمته.. وكان- وأنا أتكلم عن الشاعر المسلم- على صلة قوية بدينه وقرآنه وسنة نبيه { وبالتاريخ المشرق- لأن التاريخ يشكل حقلاً خصباً لتجارب البشرية.. والتاريخ- كما يقولون- يعيد نفسه- وأنا من خلال قراءتي لفترات الأزمات في التاريخ، أحياناً أجد وصفاً لأزماتنا المعاصرة فيما مر من تاريخ الأمم وعلاجاً لهذه الأزمات في التاريخ.. فإذا استطاع الشاعر أن يكون بهذه الصورة من حيث المشاعر والإحساس بقضايا الأمة استطاع أن يقدم للأمة ما ينفعها.
وما هو الذي ينفع الأمة؟.. حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه لم يكن يُنتظر منه أن يكون في مقدمة الجيش بسيفه.. ولكن الرسول { قد قال له:"والله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غسق الظلام"
إذاً الشاعر الصادق مع نفسه وأمته ودينه يمكن أن يقدم ما هو أفتك من السلاح..
فالشاعر يملك الكلمة التي يوقظ بها من غفل ويحمس بها من جبن.. ويسخي بها من بخل ويثير بها اهتمام من انصرف عن قضايا الأمة ومشكلاتها.
تقول:
"يترنح المذياع من طرب
ويشتعل القدح
وتهيج موسيقى المرح
والمطربون يرددون على مسامعنا ترانيم الفرح"
-كيف ترى حالة الغياب الشامل لوعي النُخب العربية والإعلام العربي؟ وكيف نتجاوز هذا الغياب؟
هذا غياب مؤسف. ولهذا أنا لي قصيدة عنوانها: "أين أنتم أيها العرب".. تساؤل أليم ..
هناك اهتمام - الحمد لله - في نفوس الكثيرين.. لكن الأمة بكاملها غائبة.. غائبة غيبة كاملة ومخيفة.. لو تابعنا القنوات الفضائية العربية ستجد أن فيها من الغثاء ما يدل على هذه الغفلة الهائلة التي تعيشها الأمة.. الأمة إلى الآن لم تسلك طريقها الصحيح.. ولهذا فهي غائبة بالرغم من وجود المصلحين وعلماء دعاة.. إلا أنني أتكلم عن تيار الأمة بكاملها.. إن أمة يمكن أن نراها في مكان من عالمنا الفسيح تعيش في مرقص على خمور وراقصات مائلات مميلات.. وفي اللحظة نفسها لو انتقلت إلى صورة أخرى سترى أسرة بكاملها تُدمر في فلسطين أمة بهذه الصورة أمة غائبة..
ولهذا أنا أبكي في شعري ولا أيأس. لأن الأمل مشرق وأنا أقول لكم:
والله لو جرف العدو بيوتنا
ورمت بنا خلف المحيط زوابع
لظللت آمل أن أمتنا لها
يوم من الأمجاد أبيض ناصع
الأمل مشرق.. ولكن الغياب مطبق.. وهذا يظهر بوضوح في قصائدي مثل قصيدة "غب يا هلال"- التي أتيت ببعض مقاطعها- ففي قصيدة "هلال العيد" قلت على لسان الطفلة الفلسطينية :
عيد.. هل جئت بالجديد المهند
أم أعيدت بعودك الحسرات
عيد.. إن كنت تستطيع فبعدا
كيف تأتي وأمتي أشتات
وأنا أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع شمل هذه الأمة وأن يوقظها من هذه الغفلة الكبيرة.
تقول:
"سِلْم وما أقسى السلام بلا كرامة
سلم وكل الراحلين ينقبون عن السلامة"
ما مواصفات السلام في نظرك؟
السلم الذي يجب أن يجنح إليه المسلمون محدد في كتاب الله وسنة رسوله { وعندما نرجع إلى كتب التفسير لنفسر قوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها سنجد تفسيراً صحيحاً لهذا السلام..
فالسلام اسم عزيز علينا.. ولهذا قلت في إحدى قصائدي: "أنت السلام ومنك يارب السلام"
أما هذا السلام الذي يطرح أمامنا فهو خاوياً من معاني السلام الحقيقي ليس بسلام.. ولهذا أنا قلت:
يا من رحلتم إلى مدريد قريتكم
مخروقة وجراب الخصم ملآن
فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يكون بهذه الصورة.. صورة الذلة للأعداء والخضوع لهم.. فالسلم يجب أن يحفظ حقوق الطرفين أما أن تهدم حقوق طرف وتحفظ حقوق طرف آخر فهذا ليس سلماً.. هذا ظلم.. ولهذا أنا في كثير من قصائدي بينت أن دعوى السلام المشاعة في زماننا هذا من باب أسماء الأضداد ..
فمن أسماء الأضداد في لغتنا العربية يقولون "للّديغ" "سليم" فهم يقولون للظلم "سلم" فالسلم المحدد في الكتاب والسنة هو اتفاقات تقوم على أسس يراعى فيها حقوق الناس جميعاً وتحفظ بها حقوق الضعفاء والمساكين .