دخلتْ إلى السيارة على عجل....
انكمشتْ من البرد...
ثم استرختْ...
بعد دقائق بدأ شيء من الخدر يسري في أوصالها...أدارت وجهها نحو النافذة...ثم ما لبثت أن لمست زجاجها بأطراف أصابعها النحيلة...
كان الزجاج بارداً مثلجاً...
قادتها تلك اللمسة إلى صوت بعيد...سمعته يأتي من أعماقها المخبوءة...
..
قال ذلك الصوت بوجد:"كنت أنتظر هذه اللحظة...انتظر لمستك الدافئة تلك في هذا اليوم البارد..."
نظرت إليه...
.
.
كان ذلك هو الصباح...
كان ضبابياً..مزرقاً...ذو درب ساحلي فاتن...تصطف بعض الأشجار على جانبه...ويرتمي الخليج بموج ناعس على الجانب الآخر...
تمارس النوارس ببياضه تحليقاً...ويذوب الصمت في ندى زهوره...
أما الشمس..فكانت تتمطى بدلال في أفق يزركشه سحاب متناثر..
قالت مندهشة: تنتظرني...أنت؟؟؟ منذ متى؟؟
قال بصوته الندي: منذ اثني عشر عاماً..
أتذكرين؟؟؟
استرقت النظر خلفها ...فوجدت نفسها فتاة على نهايات الطفولة..تتحدر جديلتها خلف ظهرها...ترقد بجوارها حقيبتها المدرسية...وتخبئ يديها في أكمام كنزة صوفية ملونة...
أغراها صفاء زجاج النافذة في ذلك اليوم الماطر..فلمسته بأصابعها ..ثم ابتسمت حين رأت الدفئ يسري للزجاج...
تمنت أن تلثم المياه المتحدرة أمامها..
شعرت بنشوة مطلقة...وبشرارة من الوهج تسري في قلبها..
وبصوت هامس قالت:أيها الصباح...أتراني أتذكر هذه اللحظة بعد عمر طويل...؟؟؟بعد اثني عشر عاماً مثلا؟؟؟
ترى أين سأكون...وماذا سأفعل...؟؟؟وأنت...أسأظل أيها الصباح أحبك كما الآن؟؟!
عدني..
عدني أن تساعدني كي أتذكر هذه اللمسة بعد سنوات طويلة قادمة...
اختلطت بها اللحظات فما عادت تدري إلى أي زمن باتت تنتسب...
إنها هنا فقط..مع هذا الصباح الشهي..والزجاج البارد...واللمسة الدافئة...
أتمتزج الرؤى إلى هذا الحد؟؟؟؟أتنبثق الذكريات فجأة كجداول صيفية تغمرنا؟؟؟أتأتي لحظة حاضرة لتأسرنا بهذا العمق في صمت لحظة ماضية...
عاد الصباح وقال لها:
أتعرفين أي دفئ منحتني إياه في تلك اللحظة..
قبل اثني عشرة عاما؟؟؟
ها أنذا أحاول أن أرد جميلك كل يوم...وأفي بوعدي..
فهل تدركين مدى ولهي بك أيتها المسائية المشرقة في فجري؟؟؟
هل تدركين كيف يمكن لصباح عجوز أن يتجدد شبابه كل يوم على يد قلب يهمس له ذات صدق إنه يحبه؟
انظري إلي!!
تارة أشرق عليك بزهرة "غاردينيا" تعطر جل يومك..
وتارة أفاجئك بنسيمات تقبل وجنتيك مبتسمة..
وأخرى أدللك بكوب قهوة دافئ...
وكثيراً ما ألبستك من "صوته" الذي تحبين عقداً من شوق ولهفة...
فهل تسمعين قصائدي الذائبة في الشروق ...وكيف أنشدها كل يوم؟؟
.
.
.
تراخت أصابعها على برودة الزجاج...
أغمضت عينيها...وتركت الصباح يعيث بوجهها شمساً...