الكذب جريمة مثل القذف والتزوير
د. عبدالله مرعي بن محفوظ
شَرَع الله تعالى الحدود الزاجرة لمن يقترف الأذية بحق المؤمنين والمجتمع، لأن ترك فاعلها بغير عقاب يضر بنظام المجتمع بأسره، وقد ثار سجال سابق بين الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر وبين الصحفيين في مصر بمناسبة مطالبته بتطبيق حد (الفرية) على الذي لا يأتي ببينة على ما يقول من أخبار، والنظام الإسلامي حافظ على عرض المؤمن بحد (القذف)، والتي تتضمن ثلاث عقوبات في آن واحد، الأولى : بدنية وهي ثمانون جلدة، والثانية : عقوبة أدبية وهي إسقاط الشهادة (وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) والثالثة : عقوبة دينية بوصفهم بالفسق قوله تعالي: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
ولكن يظل الكاذب المتنقل في المجالس بعيدا عن تطبيق العدالة، إلا إذا اقترن كذبه بفعل مثل النشر في وسائل الإعلام فانه يعاقب بنظام المطبوعات والنشر حسب المادة (73) الفصل الثالث من اللائحة التنفيذية، وإذا خاصم كذباً في المحاكم الشرعية يعاقب بنظام (الدعاوى الكيدية)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي حديث عبد الله بن عمرو: وإذا خاصم فجر.
ان إشاعة الكذب في المجالس يعتبر تضليلاً للمجتمع، وشائعات اخطر من الكذب نفسه، ولذلك يجب على المؤمن الصالح ألا يكون أذنا تسمع وتذيع كل ما تسمع، قال الله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) فالتبيُّن والتثبت واجب على المسلم في أي قضية او خبر، وإن كان البعض وللأسف يتلقفون هذه الأكاذيب ويروجونها فرحاً، والبعض الآخر يتلذذ بهذه الأمور ولا يبالون إن كان حقاً أم باطلاً، ولكن المفروض على المؤمن ان يتحرى ويتثبت ويتبين ولا يقول كلمة سوء عن اخيه المسلم أبدا.
قال صلى الله عليه وسلم (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً)، وحُسن الخلق في الصدق الذي يجلب ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، أما الكذب فيجلب سواداً في الوجه، وظُلمة في القلب، ونقصاً في الرزق، وكآبة في الفكر، وبُغضاً في قلوب المؤمنين، ولا يزال الكاذب يكذب ويُزيّن له الشيطان كذبه، حتى يدفعه بنشرها نهاراً في المجالس وفي الليل يسطرها على الانترنت، ثم إذا شبع واستشبع ضرراً في خلق الله أرسلها فاكسات من كبائن الشوارع!! ثم يرتقي ظلماً بالدعاوى (الكيدية) على خلق الله في المحاكم.
والكاذب عاصٍ، والمعاصي تجر لأمثالها، ويولد بعضها بعضاً حتى ينعكس عليه كذبه في حياته الأسرية، وتكون آثار الكذب في بيته منغصاً مهما طالت عشرته.. (نعم) سوف تنعكس بطلاق الصالح من الطالح، والكذوب الحسود في هذه الحالة لن يتعامل بأخلاق المؤمنين، باعتبار أن الطلاق أحد العوامل الباعثة على الرحمة والشفقة، بل تجده يتعامل مع الطلاق بالتمرد على الحقوق، والتخلي عن الواجبات، والمراوغة على الطرف الضعيف في معادلة الطلاق، وذلك بالعمل ضدها اجتماعياً، والنيل منها إعلامياً، وإلصاق كل شائبة بها كنوع من التنفيس والانتقام، تلك هي علامات الكاذب الفاجر، وكل ذنب قد يصغرُ عنده ولكنه عند الله قد يكون من أكبر الكبائر ولا يزال المرء يألف المعصية ويتهاون بالخطايا حتى يهلك، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً، ويصل إلى غاية التبلد والمجاهرة، لكن الكذوب يطمس الحق، ويباعد بين الأخلاء، ويشتـت الأقرباء، وينسف المصاهرة.
هنا يقف الحكيم حيران ويتعجب منهم؟
فهم غالباً يتظاهرون بالصلاح والفلاح ويتفاخرون بفعل الخيرات (وفرش) المساجد ويتباهون بها على الله أكثر من العباد!!.. ولكن الحقيقة هم مخادعون يلبسون ملابس التقى والوجل وهم يعلمون أنهم كاذبون، وأخبرنا رب العزة والجلال عنهم في قوله تعالى ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) سورة التوبة.
أقول مستغرباً فيهم، أعرب هم أم عجم؟ ألا يقرأون قول الله تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) سورة الحجرات.
ما أشد حاجتنا إلى مراجعة يقيننا وجعله خالصاً لله، وتنقية قلوبنا من الآفات المهلكة والصفات الذميمة، وتزكية أنفسنا بأخلاق الطيبين وأفعال الصالحين لننال محبة الله،
فنحنُ بحاجةٍ إلي الصدق وحسن العمل، حتى نكون دائماً في قمة الفلاح.
ختاماً تبرز اهمية تعديل نظام الرشوة والتزوير، ليضاف إليها الكذب وأنواعه وما يعد جريمة جنائية توجب العقوبة، يكون الحق فيها لمن ظلم من كذب الفاجر، ان يرفع دعوى شرعية عليه لدى الجهة المختصة،
وتكون العقوبات رادعة ومفصلة لمن يتجرأ على المؤمنين او المجتمع بالكذب،
ومن العجيب أن دول الغرب المسيحية يعد (الكذب) فيها من أخطر الجرائم التي يعاقب عليها النظام،
ونحن أولى بتطبيق فضيلة الصدق وتنمية الشعور الاجتماعي بها والمحافظة عليها بالنظام والتربية وبغرس مفهوم محاربة رذيلة الكذب، ومهندسي الأخبار المضللة ضد المجتمع.
* نقلاً عن صحيفة "المدينة" السعودية، الأربعاء، 11/يونيو/2008م.