بسم الله الرحمن الرحيم
مفكرة الإسلام: تشير أصابع الاتهام في عملية اغتيال الحريري إلى عدة جهات ربما تدل الأدلة على ترجيح بعضها عن بعض ..
فليس أدل على قيمة الرجل وثقله السياسي والشعبي من تلك التداعيات التي حدثت و تحدث بعد اغتياله مما يراه البعض مؤشرا لعودة حالة الانفلات الأمني الكاملة ونذيرا بمواجهات قد تعود بأرض لبنان إلى زمن الدمار والحرب الداخلية ..
الحريري بين المال والسياسة ..
فالرجل على المستوى السياسي يعد السياسي الأوحد في الدول العربية جميعا الذي يتمتع بتلك الشعبية الجارفة وهو خارج المسئولية السياسية الرسمية وهو لا ينتمي لحزب أو جماعة معينة ولكن الرجل قد بنى شعبيته بنفسه وغذاها بأعماله التي اقتنع بها الكثير من أبناء شعبه في لبنان .
كما أنه على المستوى الاقتصادي يعد من القليلين في دول المنطقة الذين يستخدمون أموالهم في المصلحة السياسية – [ قدرت ثروة الحريري بما يقارب أربعه مليارات ونصف دولار ] - ، حيث اعتاد المواطن العربي أن يرى مسئوليه يستخدمون السياسة في سبيل تحصيل الأموال وتكنيزها ، وهم في ذلك يستخدمون أوضع السبل لتحقيق تلك الأطماع ، فكان اغتياله هو في الحقيقة اغتيالا لتوجه اقتصادي قوي يسير بلبنان بقوة من الديون الكبيرة الجاثمة على صدره إلى مرحلة تقدم استثماري واعد لاسيما إذا واصل الحريري نجاحاته السياسية وقدر له الوصول إلى رأس السلطة [ كان الحريري هو السبب الأول في إقناع كثير من زعماء العالم بعقد مؤتمر لإسقاط الديون عن لبنان ].
الحريري المعارض القوي:
لقد ترأس الحريري المعارضة اللبنانية واتهمته السلطة بسعيه لتطبيق القرار 1559 الذي ينادي بالانسحاب السوري الكامل من لبنان وتحويل المنظمات الفلسطينية ومنظمة حزب الله الشيعية إلى منظمات سياسية بعد نزع سلاحها وإدخالها ضمن منظومة الدولة اللبنانية اتقاء للتسلح الطائفي وما يمكن أن ينجم عنه.
وحاولت السلطة اللبنانية بقيادة إيميل لحود ودعم مخابراتي سوري التضييق على الحريري ما اضطره للموافقة على التجديد لإيميل لحود لفترة رئاسية أخرى استجابة لضغوط سوريا خرج بعدها بقليل الحريري من رئاسة الوزراء.
وحاولت السلطة اللبنانية بعد ذلك وضع العراقيل في طريق الحريري الذي كانت تخشى من وجوده ونجاحاته التي تنبىء باحتمال وصوله لقمة الحكم في لبنان نبوءة قوية ، وأصدرت قانون الانتخاب بعد اعتماده بطريقة تمنع الحريري من الانتصارات الساحقة التي لطالما حققها سجله الانتخابي عبر العقود الماضية ، وقد قسم القانون الانتخابي بيروت إلى ثلاث دوائر يغلب عليها الطابع المذهبي، حتى يخسر الحريري الكثير من رصيده النيابي الحالي حيث تسيطر كتلته على كل مقاعد بيروت.
وزاد الموقف توترا قول وزير الداخلية سليمان فرنجية: إن تقسيم بيروت جاء على قاعدة أن للرئيس الحريري 'حصته إذا كنا نتكلم سنّياً، وهناك حصة الشيعة والأرمن وجزء من السنّة وهناك حصة المسيحيين'. وهدد النصارى بأنهم إذا تحالفوا مع الحريري فإن الدولة ستعيد خلط الأوراق في بيروت.
ورغم أن الحريري كان يحتفظ بمسافة واضحة بينه وبين المعارضة النصرانية المارونية ، فقد اتهمته السلطة بأنه هو زعيم المعارضة جميعها وأنه وراء القرار الدولي 1559القاضي بالخروج السوري من لبنان وأنه حرض صديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك لاستصدار مثل هذا القرار بالتعاون مع واشنطن، وأنه هو المحرك الحقيقي للمعارضة وأن البقية ليسوا إلا مرافقين له.
ونحن في نظرتنا للحدث نتوقف عند عدة نقاط هامة قد تدلنا إلى ما يشير إلى الفاعل وإلى أسباب الفعل وتداعياته ..
أولا : الحادث له رائحة مخابراتية قوية ، فالحريري كان لديه قوات لحمايته الأمنية لا تقل في قدرتها عن قوات حماية أى رئيس لدولة عربية ..وتستطيع تلك القوات أن تستكشف التهديدات التفجيرية والمسلحة بمختلف أشكالها ..ولكن يقول المسئولون الأمنيون في موكب الحريري : إن أجهزة الرصد عندهم قد تعطلت فجأة قبل الوصول إلى منطقة الانفجار بقليل
والقنبلة التي استخدمت في الحادث كانت من نوع القنابل الثقيلة والتي تزن أكثر من 350كجرام ، ما جعل مساحتها التفجيرية يطال محيط 3 كيلوا متر ..فاحتاجت إلى قدرة مميزة للدخول بها في تلك المنطقة المغطاة أمنيا والمكتظة بالسائرين في وضح النهار
أضف إلى ذلك قدرة ذاك الفاعل على تعقب الموكب وتحديد سيارة الحريري ورفاقه والقرب منها بحيث كانت أكثر السيارات تضررا وكان من فيها هم أول القتلى رحيلا
ولاشك أن تعطيل أجهزة الهواتف الجوالة في الموكب – كما صرح مسئولون أمنيون – والتشويش على التعقب يحتاج إلى تقنيات عالية لا تستطيعها المجموعات الصغيرة ، بل هي من فعل أجهزة مخابراتية مدربة وذات قدرات متطورة ..
أضف إلى ذلك ذاك الاتصال الساذج التي افتعلته الأطراف المتورطة في الحادث – والذي أعلن عنه بأن جماعة إسلامية تعلن مسئوليتها عن الاغتيال - والذي يعمق القول بالدور المخابراتي ، والذي تبرأت منه جميع الاتجاهات الإسلامية السنية في لبنان وغيرها .. كيف والرجل كان أكبر صوت سني سياسي معارض في بلد يسيطر عليه الشيعة والموارنة والنصارى؟ !
ثانيا : تشير العملية إلى تورط دولي لأكثر من طرف فيها ، فالذين يشيرون إلى تورط السلطة اللبنانية بها يعلمون جيدا أن تلك السلطة لم تكن وحدها مستعدة لمواجهة ما يتوقع من انقلاب عام للأحوال الأمنية والسياسية في لبنان ، وأنها – في حال تورطها – لابد وأنها قد اطمأنت لدعم دولي معين لكي تسيطر على الأحوال المنفلتة المتوقعة بشكل شبه متأكد ، وإلا فلا يمكن أن يزيدها حادث الاغتيال إلا ارتكاسا في موقفها الذي بات مهددا ..
كذلك تبدو الأمور واضحة من جهة أن هناك أطرافا لابد أنهم على علم مسبق بالحادث وإن لم تكن قد شارك فيه بالفعل ، وهي أطراف دولية لا يمكن لجهات مخابراتية الاستغناء عن استشارتها في حادثة كتلك قد تتغير بعدها الخريطة السياسية لتلك البلد ..
ثالثا : بالنظر إلى المستفيد من إبعاد الحريري من الموقف السياسي اللبناني فإن هناك عدة جهات يمكن رصدها ..
1- فالسلطة اللبنانية الحاكمة والتي على رأسها إيميل لحود ، تأتي في مقدمة المستفيدين ؛ إذ كان الحريري يمثل لها شوكة قوية للمعارضة سواء على مستوى المطالبة بالإصلاح أو بالانفتاح على العالم الدولي أوبتعديل قوانين الانتخاب أو باستقلال القرار السياسي بعيدا عن التنفذ السوري المهيمن عليها ، ما جعل هناك رأسا ثانيا موازيا ومكافئا في قوته للرئيس اللبناني ، بل قد يكون مدعوما على المستوى الدولي بشكل أكبر من رئيس السلطة في لبنان ، ما حدا بالبعض إلى التصريح بأن الحريري كان هو المحرك الأول لجميع أطياف المعارضة والممول الأول لها سواء في أثناء فترة عمله الرسمي كرئيس للوزراء أو بعد استقالته ..
2- كذلك يعتبر ' الإسرائيليون ' من أكبر الأطراف المستفيدة من تلك الحادثة حيث إنها تفجر الأوضاع في لبنان بشكل يهيىء الفرصة المناسبة للتدخل الخارجي اليهودي من جديد متذرعا بذرائع كثيرة كتدهور الحالة الأمنية وتحجيم النفوذ السوري وغيره..كذلك قد يستفيد ' الإسرائيليون ' من ذلك بتهيئة الفرصة لتدشين منطقة للمهجر الفلسطيني وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين في لبنان وهي الخطة التي على جدول شارون السياسي منذ جاء إلى السلطة
كذلك هناك منظور آخر على صعيد الاستفادة اليهودية من عملية الاغتيال وهي اتخاذها سببا لتسخين حملة إعلامية دولية على سوريا تتهمها فيها بتدبير الحادثة وتكون توطئة لزيادة التضييق على سوريا وربما تغريها بعمل عسكري ضدها
3- كذلك تبدو الاتجاهات الشيعية في لبنان من المستفيدين من مقتل الحريري حيث كان داعما – على المستوى السياسي - للسنة ، كما كان من المؤيدين الكبار لتحجيم قدرات حزب الله الشيعي المدعوم من سوريا وإيران والمتنامي التأثير في القرار السياسي اللبناني يوما بعد يوم والمحجم للنفوذ السني في لبنان بدرجة كبيرة ، وقد أشار بعض المحللين إلى إمكانية التورط الشيعي الواضح في عملية الاغتيال لا سيما إذا اتضح وجود عنصر ' انتحاري ' من عناصرها كما أعلنت بعض المصادر الأمنية ..
رابعا : أخطأت المعارضة اللبنانية حين تسرعت باتهام سوريا بتدبير حادثة الاغتيال لعدة أسباب :
1- أن التسرع بالاتهام السوري بعد عقد مؤتمر للمعارضة بعد ساعتين فقط من الحادثة يعضد القول بترتيب مسبق لاتجاهات في المعارضة للإيقاع بسوريا في مسئولية الحادث ، ويضع علامات الاستفهام حول بعض الشخصيات البارزة من المعارضة ورغبتها في الانفراد بالموقف المعارض في لبنان خصوصا بعد حصوله على زخم دولي كبير سواء من فرنسا أو الولايات المتحدة ، مع تلويح الولايات المتحدة بإمكانية إزاحة السلطة اللبنانية الحالية والموالية لسوريا ، ما يمكن أن يكون قد أسال لعاب تلك الشخصيات التي لا يمكنها البروز في وجود الحريري ذي الشخصية النافذة على شتى المستويات ..
2- أن الحادث يخالف النهج السوري المعتاد في التعامل مع القضية اللبنانية ، فقد حافظت سوريا حتى الآن على العمل بشكل هادئ في تلك القضية ، لكن هذا الاغتيال سيعلن خروجها إلى حرب معلنة لإبقاء تواجدها في لبنان ، كما إنه ليس في مصلحتها بحال إشعال الموقف في لبنان في وجود التربص الأمريكي اليهودي لها واستعداده لاستغلال تلك الحادثة كدليل إدانة كبير لها ..
3- أن المعارضة باتهامها السريع والشديد لسوريا - وبالتالي للسلطة اللبنانية الحاكمة – تستغل ظرف المشاعر المتوقدة عند الشعب من المتأثرين بموت الحريري وقد تجر البلاد إلى مواجهات غير محسوبة خصوصا مع عدم وجود قيادات واضحة يمكن أن يتحد خلفها المعارضون خصوصا على مستوى السنة ، في وقت يعلم جيدا قوة الأطراف الأخرى ..
خامسا : تمثل هذه العملية دفعا فى اتجاه [ كلما كان أسوأ كان أفضل ] بالنسبة لأمريكا تجاه سوريا والحكومة اللبنانية ، وستستغلها الإدارة الأمريكية إلى أقصى حد لتضييق الخناق على سوريا لإرغامها على تنازلات متتابعة ملوحة بصورة أكبر بالتدخل العسكري والعقوبات المختلفة ، وقد تبدى من واشنطن ما توقعه الكثيرون من استغلال الحدث بأقصى صورة مقدورة حيث أعلنت ضرورة معاقبة الفاعل في ذات الوقت الذي أعلن فيه شارون أنه لا سلام مع سوريا إلا بعد انسحابها من لبنان !!
وبدأت أمريكا فى نسج خيوط محكمة لكيفية استغلال الحدث والتى كان بدايتها استدعاء السفيرة الأمريكية ليلة أمس .. أما الدور الفرنسي فقد طالب بفريق بحث دولي لاكتشاف المتورط في الحدث ملمحا لعدم الثقة في السلطة الحالية وبإمكان كونها هي الفاعلة ،وسوف يحاول الفرنسيون توسيع قدر الدعم لجبهة المعارض ميشيل عون وأتباعه وسوف يحرص شيراك بنفسه على حضور الجنازة المهيبة والشد على يد المعارضة في العزاء !!
سادسا : لم يكن الحريري حريصا على صناعة ميليشيات مسلحة خاصة به ولعل ذلك هو الجزء الذي قد يراهن عليه الكثير بعد موت الحريري فهناك ميليشيات لجميع الطوائف المسيحية والشيعية ، ولذلك فإن الكثير من أصحاب اللعبة يريدون استغلال فرصة الثورة لدى مؤيدي الحريري لدعمها عسكريا وتحويلها إلى نوع فوضى تقود زمامها الميلشيات المسلحة الطائفية ، فاغتيال الرجل يفتح ملف الاغتيالات التي لطالما طالت المسئولين اللبنانيين والتي قيدت كلها ضد مجهول ! ويلوح لشخصيات المعارضة الباقية تلويحا مخيفا بنفس المصير الذي ينتظرهم ..
كما يلفت النظر إلى مستقبل قد يكون صعبا ومؤلما على طائفة السنة في ذلك البلد الذي وقع بين براثن أطراف طائفية لم يظهر بعد أن أحدا منها يسعى لمصلحة الغالبية السنية من الشعب اللبناني الجريح.